الثلاثاء، يوليو 08، 2008

أغاني بابلية للموت العراقي

(أغنية الرقيم الطيني الأول)

سأسميكَ ما شئتَ
يا وطنَ الغيبِ . .
فأهدأ قليلاً
وخذ ما تريد من الاضحياتِ.
سأسميك نورَ ألعراقينِ،
أور الذبيحةَ.. ..بابلَ مرفوعةً للسماواتِ
أرضَ السوادِ.
وأعطيكَ من لهفةِ الماءِ
كأسَ ألنبّواتِ مترعةً.. بالندى،
والعنادِ.
ولكن تمهلْ قليلاً ولا تحتفي بزمانِ الغزاةِ
ودُرْ فوق بابِ الجحيمِ ثلاثاً،
ولا ترتمي لوحةً
عُرضتْ في المزادِ.
ليشتعل الوردُ في راحتيكَ
ويمتّدُ فوقَ تضاريسِ عينيكَ
مازلتَ حياً..
ومازالتِ الروحُ فيكَ
فكن ما تريد..لأسميكَ ما شئتَ..
لكن تمهلْ قليلاً ولا تحتفي بالغزاة.

(أغنية الرقيم الطيني الثاني)

اليومُ يأخذنا الدخانُ
إلى مقاهي الموتِ
في بغداد...
ما بين الشوارعِ،
نستظلُّ بقامةِ الجدرانِ.. عاليةً.
ويحملنا البنفسجُ في قطار الموتِ..
يسرعُ في متاهتهِ الى النفسِ الأخيرِ.
إلى أور المعابدِ والعيونِ السودِ..
مأخوذين بالموتى
وبالصوتِ العراقيّ البسيطِ.
مختلفين في كلّ التفاصيلِ الصغيرةِ
مجتمعينَ في الموتِ الكبيرِ.
* * *
هنيئاَ موتكِ العاديَّ.. يا بغداد.
هنيئاً..لا مراثيَّ..
لا صحافة تنقل الأسماءَ في عجلِ،
سوى ألأرقامُ،
تحسبها الرياضياتُ والإحصاءُ يومياً لقتلانا.
نرى وجه البلادِ هناكَ
من ثقبٍ يغورُ بجرحنا الممتدّ أشكالاً وألوانا.
ونرفع راية الأحياءِ،
مازلنا على قيد الحياة.
مأخوذين بالوعدِ الإلهي الجميلِ،
وحرقةِ الترتيلِ..
ما بين الظلام وصمتِ إينانا.
* * *
اتخذي جداراً آخراً
هذا الذي يمتّدّ بينكِ والفرات
مطرزٌّ بالنارِ والجفصينِ..
هذا ساقطٌ لا خير فيه،
باعَ ضميره للعابرينَ الى تخوم العالمِ السفليّ.
وأتخذي جداراً آخراً.

(أغنية الرقيم الطيني الثالث)

مبروكٌ..لكسرى يزدجرد..
أذ عادت مدائنهُ اليه.

الاثنين، يوليو 07، 2008

غورنيكا عراقية لسماء بلون الدم

المدينة واقفةً على قدميها كما كانت دائماً. لم تهرب منها شوارعها، ولم تهجرها زوارقها. وجانباها الشرقي والغربي مازالا ،على غير عادتهما، يجلسان على عتبة البابِ بأنتظار عودة النهارِ االذي غادرَ عابراً صحراء الغيبة الى عمّان، أو ربما دمشق، لكنه تاه في براري ملوك الطوائف المحروسة جيداً بعيون الغرباء والميليشيات وجند المغول.رائحة الخبز الساخنِ وضوضاء العصافير المذعورة أبداً مازالت تستيقض مع أول خيوط الفجر كما كانت منذ بدء الخليقة. وأحلام الصبايا، المترددات بين الإيماءة البريئة والنظرة الماكرة، مازالت كما هيَ لم يمسسها شياطين الأنس ولا مردة الجان. ودعاء أمهاتنا يصعدُ عابراً سماواتنا السبع قبيل ساعات الإستجابة الغامرة. حتى حجارة الأرصفة التي تكومت على نفسها من حزنٍ أصابها على غفلةٍ منها، مازالت هناكَ لم تبرح مكانها بعد.بغدادُ، المدينة.. الغاية.. الأسطورة.. الشهيدة بلا أكفان.. مازالت حيةً لم تمت بعد.فرغم كلّ هذاالموت الذي أعدوه لها في أروقة المكاتب الأنيقة، والسكاكين – ألجدران – المغروزة في خاصرتها، والقنابل الذكية والغبية التي تنفجر، بقوة البغضاء والحقد المصفى عبر مئات السنين، على نواصيّ أسواقها وفي قلوب عاشقيها.. مازالت على قيد الحياة. نبضُها يعلو بين أوتار السنطور الأكدي وصراخ الفتية لاعبي كرة القدم في الشوارع المزروعةِ ببقع الدمّ الطازج ومياه المجاري السوداء المعروضة، مع سبق الإصرار، أمام كاميرات المراسلين الباحثين عن خبطةٍ صحفيةٍ صالحةٍ للعرض على شاشات العالم.نعرفُ بفطرتنا، التي لوثتها سنوات الديكتاتورية وبقايا اليورانيوم الأمريكي المنضّب، إن بغدادنا مازالت حيةٌ تُرزق.. ولأنها تتنفسّ هواء دموزي وترسم بيدها المرتجفةِ كلماتها الجديدة على مسلّة أوروكاجينا وتبحث عن كتبها في سجّلات مكتبة آشورناصربال وتردد أدعية أتونابشتم وتصلي صلاة موسى الكاظم والنعمان بن ثابت.. فإنهم يريدون قتلها.ثمّة أسئلةٍ معلّقةٍ بين الأرض والسماء لا يريد احدٌ منهم الأجابة عليها.من قصم ظهر جسر الصرافية؟ من فجّر شارع المتنبي؟ من كسرَ ابواب المتحف العراقي وسمحَ بنهب محتوياته؟ من أحرقَ المكتبة الوطنية؟ من قصف ودمّر جميع الوزرات عدا وزارة واحدة هي وزارة النفط؟ من الذي فجّر ساحة العروبة في الكاظمية؟ من الذي أحرق سوق الشورجة لمرات عديدة؟ ومن ذا الذي يقوم بتصفية العلماء وأساتذة الجامعات والأطباء والمثقفين والصحفيين والفنانين في وضح النهار على قارعة طرقات مدينتنا؟ من ذا الذي يطرد أبناء بغداد من بيوت أجدادهم ليصبحوا لاجئين لدى دول الجوار؟ ومن الذي يقوم بسرقة قوت الشعب ونفطه وكهربائهِ ومائهِ ومستقبله؟ ومن الذي فجرّ تمثال ابي جعفر المنصور باني مدينة بغداد؟المجرم واحد. ويعلن عن نفسه مع كل جريمة جديدة بلا خوفٍ ولا حياء.ولكن نعرف مع كل مجزرةٍ جديدة أن بغدادنا لم تمتْ بعد. لذلك فهم يوغلون في تدميرها كرهاً وحقداً وخوفاً. ومع كل جريمة جديدة نتأكد أنهم يفشلون في قتلها وإنها تصبح أعلى وأبهى وأقوى وتبقى حبيبتنا التي لن تموت.

سعد الشديدي

عثمان الأعظمي .. الكاظمي .. العراقي

لا يهمُّ ما يكون اسمك. فالأسماء والألقاب مهمةٌ لنا نحن البشر العاديين الذين نبحث عن أنفسنا في قاموس المسميّات، وعن محتوى، ولونٍ ورائحةٍ وبصمةٍ خاصةٍ تميزنا عن الآخرين. أما أنتَ، ومن يختار أن يسير في طريقك، فتمنحون ألمسمّيات محتواها الجديد. نحن نتشرف بالألقاب والانتماءات. وأنت تتشرف الأسماءُ والألقابُ والانتماءاتُ بك.
أنت من الأعظمية؟ حسناً أيها الفتى. أنا من الجانب الآخر من النهر. ليس بعيداً عنك. قف على شاطئ دجلة صباح يومٍ مشمسٍ فتراني. ربما الوّح لك من بعيد وربما سيشغلني عنك النظر الى السماء المحيطة بالنهر، المليئة دوماً بالنوارس المشاغبة بأجنحتها البيضاء المتأججة في شعاع الشمس الدافئة. أعرف جيداً أن ذلك لن يزعجك. طالما إنني انظر الى سمائنا المشتركة. تلك التي لم يستطع الأكاسرة والخلفاء والسلاطين والغزاة الذين تتقيأهم الأرض علينا عبر القرون أنْ يفصلوا بينها ويرسموا عليها حدودهم كما يفعلون عادة مع الأرض. سمائنا التي تطير في رحابها رفوف الحمام والعصافير الرمادية ولقالق الربيع القادمة من البلاد الباردة المتجهمة لتنعم بشمسنا.. شمسك أنت يا عثمان. تشغلني هذه السماء وتلك الشمس دائماً أيها العزيز. يوماً ما في أزمنةٍ سحيقة- هل تصدّق؟؟ - كانت الثيران المجنّحة تجوبُ سمائنا وبعد أن يهدّها التعب تقفُ صابرةً على بوابات المدن العامرة بأهلها لتبعد عنهم شرّ العدو والصديق. تحرسُ الفلاحين والحصادين والحطابين وصيّادي الأسماك المرفوعة قلوعهم في قيض الصيهود وجليدِ برد العجوز. تطرد الشرّ عن الأطفال الذاهبين الى كتاتيبهم والحرفيين المسرعين الى أعمالهم، عن نسائنا الجليلات اللواتي علمنّنا أنّ سماء الثيران المجنحة لا تفصلها حدود أو فيدراليات ولا مراكز شرطة تغصّ بالمرتزقة والشحنكية وفتّاحي فال السياسة الواقفين دوماً وأبداً على أبواب الدكاكين المبنية على الطائفة أو القومية أو العشيرة. من اولئك المتطفليّن على حياتنا ومصائرنا وأقدارنا وشوارعنا ووجبات طعامنا وكتبنا المدرسية وأدعية جداتنا القلقة في أزمنة السلم والحرب. المتحكمّين بخطواتنا.. أنتَّ وأنا. حتى أصبحنا لا نميزَ وقع أقدامنا عن ضوضاء أقدام جلادينا. للجلادين أقدام متشابهة أيها الفتى العزيز. تركل السجين على وجهه أو خصره..لا يهم. المهم أنْ نشعر بالألم وأن نذوق طعم المهانة. وهي ذاتها التي كانت تركل الأطفال والنساء على جسر الأئمة صباح ذلك اليوم حين كنت في طريقك الى مدرستك.السماء التي نقتسمها اليوم ،واقتسمها ابائنا وأجدادنا منذ قرون حافظين أمانة الثيران المجنحة على أبواب مدننا المنهوبة، هي التي علمّتك أن ترفض منطق الحدود الطائفية الذي زرعه أمراء الجند وأحزاب الطوائف وسقاه الانتهازيون الذين يغيّرون ألوانهم وانتماءاتهم حسب ما تقتضيه الظروف.أما أنت فوقفت حارساً للقادمين من الأحياء الفقيرة. المارّين على أبواب مدينتك. العابرين تجاه مدينتي. وقفتَ للحظة واحدة وبعدها قررتّ أن تنسى اسمكَ وانتماءك.. أو ربما لتتذكره بأدقّ حروفه وحركاته وتدخل في عالمٍ مجهول لم يطرقه أحدٌ قبلك. وأن تعّرج على انتماءٍ نسيه العراقيون، ألا الشرفاء منهم، لتذّكرهم بما أضاعوا. انتماء اسمه العراقيّ. لا السنيّ ولا الشيعيّ. لا العربي ولا الكردي. لا المسلم ولا المسيحي أو المندائي. بل العراقيّ. لم يتذكره تلك اللحظة سواك انت يا عثمان. ركضت باتجاه الجسر. لماذا توقفتَّ في الطريق ايها العزيز؟ هل أقلقكَ انك أضعتَ في الزحام حقيبة كتبك المدرسية؟ ولماذا ركضت بعد ذلك الى الجسر بلوعةِ العاشق الذي أضاع حبيبته؟انت وحدك من يعرف لماذا. سنتكهن بما كنت تفكر ونستجدي الخيال علّه يسعفنا بجواب نعرف انه قد لا يكون الجواب الصحيح. ولكنك أسرعتَ ايها الفتى الى النهر لتمدّ يدّك الى من ركلته الأقدام التي داست علينا، نحن أبناء العراق وبناته، منذ آلاف السنين. مددّتَ يديك الى الغرقى لأنك واحدٌ منهم. تعرفهم ويعرفونك.ايها الفتى عثمان.. كم عليٍّ أخرجت من النهر ذلك الصباح؟ وكيف غبتَ هكذا في لحظة واحدة عن سمائنا التي لوّنها صوت أذان الفجر وغناء العذارى وضوعُ البساتين في الصباحات المبكرة على الضفتين.لا نريد منك الآن سوى أن تنام بهدوء لأن العراق الذي متّ من أجله ما زالت تحرسه الثيران المجنحة وفتيانٌ مثلك أنتَ. مسحوا الحدود من سمائنا وسيمسحوها من قواميس مفرداتنا اليومية.عندما أمرّ على ضفة دجلة في المرة القادمة سأمدّ يدي الى أمواجها لأصافحك وأخبرك بأنني أتشرّف أن أكون مواطناً في بلدٍ أنجبك..أيها الأعظمي ألكاظمي العراقيّ.. العراقي

قبل أن يموت الجسر



قبل أن تصل قدماه ماء النهر أحسّ بوخزةٍ في خاصرته ورأى كرة اللهب تدور مستغيثةً على صدره. تحوّل نورُ الصباح
الباكر الى ظلمةٍ ذكرّتهُ بيوم القيامة، وتساءلَ إن كانت قيامته قد جاءت هكذا فجأة دونما علامات. رددّ الشهادتين على عجل وحاول أن يستذكرَ، وعلى عجلٍ أيضاً، وجوه أولئك الذين عبروه، تحت قيضِ الشمس المحرقةِ وفي ضوء المصابيح التي حملها على راحتيه برفقٍ لينير طريقهم لأكثر من سبعينَ عاماً. سمع رجعَ خطاهم.. واحداً واحدا وأصوات الضحكات وغمرَهُ صمت الهمسات التي طالما تطايرت على جنبه مع ماء المطر وبرد كانون. وعليه هبطت من أعالي السماوات أرقام السيارات ورائحة إطاراتها المنهكة وهي تعبره مسرعة حتى دون أن تلقي عليه التحية.نظر الى الحروف التي خطتها أنامل البشر على أضلاعهِ المعدنية. بعضها مازال مشرقاً ينبض بدفأ العاشقِ وبعضهاالآخر أكلهُ الصدأ. أدار وجههُ متفقداً أعشاشَ العصافيرِ المسمّرة في مخابئ زواياه وأسعده أن كثيراً منها مازالت ترقدُ بهدوءٍ في أماكنها. في الأعالي تحلّق طائرةٌ سمتية. أزعجهُ صوتُها. وفكّر بقلق: ألم أصلِ الماءَ بعد؟لسببٍ لا يعرفه فكّر أن تاريخه لم يكن حافلاً بحدثٍ زلزلَ الدنيا وشغلَ الناس، فلم يسقط عليه جعفر ولا سال عليه دمُّ شمران. ولكنه كان يشعرُ مع ذلك بالرضى. فهو يصلُ بين الضفتينِ ناقلاً رحيق بغداد من ميسمها الى تاجها، ومن تاجها الى ثغورها فاتحاً ذراعيه حتى لصغارِ النملِ وهي تعود متعبَةً الى قراها النائيةِ تحتَ الأرضِ.قبل أن يصلَ الماءَ تلقتهُ كلماتُ "ابسو" اله المياه العميقة وأمتدت يدانِ من عشبٍ أخضرٍ تحملُ شموعَ الأحتفاءِ بالعودةِ منَ الموتِ على كَرَبةٍ من سعفِ نخلةٍ بابلية. تنّفس عميقاً وأحس بصدرهِ يرتطمُ محترقاً بماءِ النهر. وغابَ بين موجتين.ثمةَ صوت لم يسمعه من قبل، خالهُ في البداية غناءَ الملائكةِ التي تحتفي بأرواح الغرقى. ولكنهُ تأكدّ أن ذلك لم يكن سوى صراخَ الأمواجِ التي تلقته على الراحات كيلا يشعر بالألم. غمرهُ شعورٌ باهتٌ بالخجلِ، أن يكونَ قد آذى ماءَ النهرِ وكسّر أمواجَه على الضفتين. أرادَ الإعتذار. فتحَ فمه المتفحّم وحاولَ أن يقولَ شيئاً ما. لكنه لم يستطع.- حاولْ مرةً أخرى وإن لم تنجح فمرة ثالثة. وهكذا فعل. فماخرجت من فمه كلمةٌ واحدة.عندما تيقنّ أنه لم يعد قادراً على الكلام تحسسّ جسده الممزق وأقدامه التي تمتدّ عميقاً في الماء.... وعرفَ أنه قد مات.نظر الى بغداد ودارت عينيه في سماواتها وساحاتها وغابات نخيلها الواجمة وتساءل بجزع: كيف سيبلغها بخبر موته!

موطني.. حتى إشعارٍ آخر



الساعة الثامنة صباحاً. وصباحات كانون الثاني باردة .. حتى في مدن الجنوب العراقي المتناثرة على اطراف الصحراء العربية. لذلك لابدّ ان ندعكَ ايادينا الصغيرة وننفخ فيها لنحصل على بعض الدفء. طابور الصباح المدرسي, ونحن كأفراخ صغيرة نرتجف برداً بانتظار رفع العلًَم. طقسٌ يوميّ لابد أن نبدأ به قبل الدخول الى الصفوف الضيقة الباردة. لم نكن وقتها نعرف بأننا مواطنون صغار في دولة من اكبر الدول المنتجة للنفط في العالم. لم يقل لنا احدٌ, حتى ابائنا ومعلمينا, ان اطفال اوربا وأمريكا يجلسون في صفوف مدفئـّة ولا يرتجفون برداً كما نفعل وينعمون بأمتيازات لا نراها حتى في اكثر احلامنا ورديةً. دقائق ويرتفع العلم. وتعلو الأصوات مختلطة بضجيجٍ تردد الجدران صداه. موطني.. الجلال والجمال.. والسناء والبهاء.. هل اراك.. في علاك... كل يوم ونحن ننشد لوطنٍ لم نكن نحصل منه إلا على الفُـتات. بينما يُنهب هذا الموطني, كل يوم وعلى مرأى ومسمعٍ من الجميع. لم يكن كل ذلك مهماً طالما كان الوطن واقفاً بوجه الايام, واقفاً ولو على قدمٍ واحدة. الاصوات ترتفعُ والعروق الصغيرة تنفر في رقاب الصغار .. غايةٌ تشّرفُّ ورايةٌ ترفرفُ. العلم يصعدُ متعباً.. مغبّراً احياناً ليصبحَ اعلى من رؤوسنا.. و.. هل اراك سالماً منعماً وغانماً مكرماً؟ لا ادري ان كان الكبار يخدعوننا حين كانوا يزرعون شجرة الوطن في مخيلاتنا التي لم تكن حدودها لتتجاوز نظرات عيوننا القلقة. هل كانوا يفعلون ذلك؟علمونا ان نربطَ جذورنا بأرض العراق ونرويها بماء الفرات.. وعرقنا المتناثرِ خيمةً على سماواته. هل كانوا يكذبون علينا؟ فالوطن ليس هو الوطن. هناك من يدوس ببساطله العسكري على.. الجمال والجلال والسناء والبهاء.. والحياة والنجاة والهناء والرجاء... في وطننا هذا اليوم. ولا نفعل شيئاً. بعضنا ينتظر المهديّ.. والبعض الآخر لا ينتظر شيئاً سوى الموت القادم من بنادق جيش الأحتلال وسكاكين المليشيات شيعيةً وسنية. أما القادة الأكراد فأنزلوا العلم واغلقوا الحدود وهربوا كالفئران من السفينة الغارقة. هل اراك في علاك.. تبلغ سموات الله التي رفعك اليها السومريّ؟ موطني اليوم.. الف مغني اعاد توزيع نشيد موطني. بعض الفضائيات تفضّل اذاعته على نغم الصبا الحزين. لماذا؟ هل مات الوطن؟ لا نريد ان نصدق. الأوطان لا تموت. النجوم تموت. الضمائر تموت. والأشجار وعصافيرها تموت أما الأوطان فلا. العراق بالذات لن يفعلها. هذا وطن غرق فيه جميع المحتلين. الأسكندر الأكبر قتله بعوض العراق بالملاريا ومات مجنوناً في بابل. والجنرال ستانلي مود الذي جائنا, محرراً لا فاتحاً, مع جيش الأحتلال البريطاني بعد الحرب العالمية الأولى قتلته الكوليرا. فليتفضل السيد بوش وطاقم المساعدين والمستشارين وليحالوا تصفية حساباتهم مع العراق واطلاق النار عليه حتى الموت. فلن ينجحوا. ليتفضل السادة اصحاب العمائم السوداء الذين لا يطيقون سماع هذا النشيد, من القادمين من هضاب بلاد فارس وسراديبها المظلمة, ليتفضلوا ويحاولوا قتل العراق. لن يستطيعوا. وليحاول السادة اصحاب اللحى الطويلة والدشاديش القصيرة, اولئك الموغلين بالبداوة والهمجية حتى النخاع, وليحاولوا ذبح العراق. وسيشاهدوا بأعينهم ان هذا البقعة الصغيرة المحاطة بالدم من جوانبها الأربعة ستخرج منتصرة في نهاية المطاف. نشيد موطني اصبح قميص عثمان. يرفعه كل من هبّ ودبّ. الشرفاء وابناء العاهرات باتوا يغنون موطني. فكيف نعرف ذلك الذي لا يغني اللحن النشاز؟ حسناً.. اعرفوا النشيد تعرفوا اصحاب الصوت النشاز والأنتماء النشاز. وغداً .. غداً سنغني جميعاً نشيدنا. سنقف والبرد يلفح وجوهنا.. امام عتبات البيوت, على النواصي. في حقول الشلب, وغابات النخيل. متعلقين بأغصان العنب وزهر البرتقال الأبيض كقلوب نسائنا الجليلات. غداً لن نجد عشرين حسيناً مقطوعي الرأس مرميّينَ في شوارع بغداد. غداً حينما ينهض العراقي من موته المؤقت ويرفع راية الوطن المقاوم للموت والتغييب والمنسلين من دبابات الدول العظمى والمرتبطين بمشاريعها. غداً سيكون مشروعنا هو المشروع العراقي الذي لا نختلف على تفاصيله. ولا رايته ونشيده. في الأفق الحاني على الخائفين تتصاعد رياح العراق لتكنس وطننا من الرؤوس المتعفنة التي اسكرتها نوبات الأنتصارات الطائفية والأسناد المطلق الذي يعلن عنه هولاكو وجنوده كل يوم. وسنراك.. سالماً منعماً وغانماً مكرماً. ولن يحكمكَ الأمريكي والبريطاني والفارسي وووو. لن يحكمك او يتحكم بك يا موطني.. سوى ابنائك البررة. وتولد من جديد مع كل صرخة احتجاج تنطلق من حناجر الفقراء والمطاردين. ومع كل طلقةٍ من طلقات الرجال الواضعين ارواحهم في احضانكَ وعلى صدرك. وحتى ذلك الغدّ.. لننشدّ وعلى مقام العراق.. نستقي من الردى ولن نكون للعدى كالعبيد. فليسمعوا.

سعد الشديدي

موطني.. حتى إشعارٍ آخر





الساعة الثامنة صباحاً. وصباحات كانون الثاني باردة .. حتى في مدن الجنوب العراقي المتناثرة على اطراف الصحراء العربية. لذلك لابدّ ان ندعكَ ايادينا الصغيرة وننفخ فيها لنحصل على بعض الدفء. طابور الصباح المدرسي, ونحن كأفراخ صغيرة نرتجف برداً بانتظار رفع العلًَم. طقسٌ يوميّ لابد أن نبدأ به قبل الدخول الى الصفوف الضيقة الباردة. لم نكن وقتها نعرف بأننا مواطنون صغار في دولة من اكبر الدول المنتجة للنفط في العالم. لم يقل لنا احدٌ, حتى ابائنا ومعلمينا, ان اطفال اوربا وأمريكا يجلسون في صفوف مدفئـّة ولا يرتجفون برداً كما نفعل وينعمون بأمتيازات لا نراها حتى في اكثر احلامنا ورديةً. دقائق ويرتفع العلم. وتعلو الأصوات مختلطة بضجيجٍ تردد الجدران صداه. موطني.. الجلال والجمال.. والسناء والبهاء.. هل اراك.. في علاك... كل يوم ونحن ننشد لوطنٍ لم نكن نحصل منه إلا على الفُـتات. بينما يُنهب هذا الموطني, كل يوم وعلى مرأى ومسمعٍ من الجميع. لم يكن كل ذلك مهماً طالما كان الوطن واقفاً بوجه الايام, واقفاً ولو على قدمٍ واحدة. الاصوات ترتفعُ والعروق الصغيرة تنفر في رقاب الصغار .. غايةٌ تشّرفُّ ورايةٌ ترفرفُ. العلم يصعدُ متعباً.. مغبّراً احياناً ليصبحَ اعلى من رؤوسنا.. و.. هل اراك سالماً منعماً وغانماً مكرماً؟ لا ادري ان كان الكبار يخدعوننا حين كانوا يزرعون شجرة الوطن في مخيلاتنا التي لم تكن حدودها لتتجاوز نظرات عيوننا القلقة. هل كانوا يفعلون ذلك؟علمونا ان نربطَ جذورنا بأرض العراق ونرويها بماء الفرات.. وعرقنا المتناثرِ خيمةً على سماواته. هل كانوا يكذبون علينا؟ فالوطن ليس هو الوطن. هناك من يدوس ببساطله العسكري على.. الجمال والجلال والسناء والبهاء.. والحياة والنجاة والهناء والرجاء... في وطننا هذا اليوم. ولا نفعل شيئاً. بعضنا ينتظر المهديّ.. والبعض الآخر لا ينتظر شيئاً سوى الموت القادم من بنادق جيش الأحتلال وسكاكين المليشيات شيعيةً وسنية. أما القادة الأكراد فأنزلوا العلم واغلقوا الحدود وهربوا كالفئران من السفينة الغارقة. هل اراك في علاك.. تبلغ سموات الله التي رفعك اليها السومريّ؟ موطني اليوم.. الف مغني اعاد توزيع نشيد موطني. بعض الفضائيات تفضّل اذاعته على نغم الصبا الحزين. لماذا؟ هل مات الوطن؟ لا نريد ان نصدق. الأوطان لا تموت. النجوم تموت. الضمائر تموت. والأشجار وعصافيرها تموت أما الأوطان فلا. العراق بالذات لن يفعلها. هذا وطن غرق فيه جميع المحتلين. الأسكندر الأكبر قتله بعوض العراق بالملاريا ومات مجنوناً في بابل. والجنرال ستانلي مود الذي جائنا, محرراً لا فاتحاً, مع جيش الأحتلال البريطاني بعد الحرب العالمية الأولى قتلته الكوليرا. فليتفضل السيد بوش وطاقم المساعدين والمستشارين وليحالوا تصفية حساباتهم مع العراق واطلاق النار عليه حتى الموت. فلن ينجحوا. ليتفضل السادة اصحاب العمائم السوداء الذين لا يطيقون سماع هذا النشيد, من القادمين من هضاب بلاد فارس وسراديبها المظلمة, ليتفضلوا ويحاولوا قتل العراق. لن يستطيعوا. وليحاول السادة اصحاب اللحى الطويلة والدشاديش القصيرة, اولئك الموغلين بالبداوة والهمجية حتى النخاع, وليحاولوا ذبح العراق. وسيشاهدوا بأعينهم ان هذا البقعة الصغيرة المحاطة بالدم من جوانبها الأربعة ستخرج منتصرة في نهاية المطاف. نشيد موطني اصبح قميص عثمان. يرفعه كل من هبّ ودبّ. الشرفاء وابناء العاهرات باتوا يغنون موطني. فكيف نعرف ذلك الذي لا يغني اللحن النشاز؟ حسناً.. اعرفوا النشيد تعرفوا اصحاب الصوت النشاز والأنتماء النشاز. وغداً .. غداً سنغني جميعاً نشيدنا. سنقف والبرد يلفح وجوهنا.. امام عتبات البيوت, على النواصي. في حقول الشلب, وغابات النخيل. متعلقين بأغصان العنب وزهر البرتقال الأبيض كقلوب نسائنا الجليلات. غداً لن نجد عشرين حسيناً مقطوعي الرأس مرميّينَ في شوارع بغداد. غداً حينما ينهض العراقي من موته المؤقت ويرفع راية الوطن المقاوم للموت والتغييب والمنسلين من دبابات الدول العظمى والمرتبطين بمشاريعها. غداً سيكون مشروعنا هو المشروع العراقي الذي لا نختلف على تفاصيله. ولا رايته ونشيده. في الأفق الحاني على الخائفين تتصاعد رياح العراق لتكنس وطننا من الرؤوس المتعفنة التي اسكرتها نوبات الأنتصارات الطائفية والأسناد المطلق الذي يعلن عنه هولاكو وجنوده كل يوم. وسنراك.. سالماً منعماً وغانماً مكرماً. ولن يحكمكَ الأمريكي والبريطاني والفارسي وووو. لن يحكمك او يتحكم بك يا موطني.. سوى ابنائك البررة. وتولد من جديد مع كل صرخة احتجاج تنطلق من حناجر الفقراء والمطاردين. ومع كل طلقةٍ من طلقات الرجال الواضعين ارواحهم في احضانكَ وعلى صدرك. وحتى ذلك الغدّ.. لننشدّ وعلى مقام العراق.. نستقي من الردى ولن نكون للعدى كالعبيد. فليسمعوا


سعد الشديدي

شهداء الضمير والكلمة الحرّة ضحايا ارهاب الاسلاميين

ديوان وصايا الليل والنهار

  عن دار الحكمة في لندن صدر ديوان وصايا الليل والنهار للشاعر سعد الشديدي