الثلاثاء، يوليو 28، 2020

خطيئة هيلّا ميفيس



سيدة المانية مثقفة ناجحة في مجال عملها تتمتع بكل الامتيازات الممنوحة للألمان في بلادهم. لديها بالتأكيد ضمان صحّي يمنحها راتبًا شبه كامل في حالة المرض أو التقاعد واذا ما اُصيبت بعاهة في العمل أو في أوقات الفراغ. كما يحقّ لها الحصول على كافة الحقوق الاقتصادية والمالية في حال أزرى بها الدهر – مثلًا إذا فقدت عملها. في بيتها ماء وكهرباء 7/24 وقرب باب بيتها محطة الباص العمومي الذي يأتي طبقًا لجدول زمني معروف، اضافة الى أنّ لديها سيارة موديل 2015. حياتها هادئة الى حدّ الرتابة. وصداقاتها عميقة وعلاقاتها بمن حولها واضحة. وفوق كلّ هذا لديها جواز سفر هو أحد أفضل ثلاث جوازات سفر في العالم يمنحها حرية السفر الى جهات العالم الأربع دونما عناء، أي الى 168 دولة في العالم كلها ترحب بها وتأخذ لها تعظيم سلام.

هذا ما نستطيع أن نحزره عن حياة الناشطة الالمانية هيلّا ميفيس التي اختُطفِت من أحد شوارع الكرادة في بغداد قبل أيام واُطلق سراحها جرّاء صفقة أسفرت عن اطلاق سراح ضابط ايراني من فيلق القدس كان محتجزًا لدى حكومة العراق – ولهذا حكاية أخرى يطول شرحها،  مقابل اطلاق سراحها.

أما كيف يمكننا أن نحزر ذلك فالأمر بسيط لأن المواطن متوسط الحال في ألمانيا ودول عديدة من الاتحاد الاوروبي يعيشون في مستوى مشابه لذلك الذي افترضناه.

عراقيون كثيرون عبروا عن ارتياحهم بعد ابعاد المواطنة الالمانية الى بلدها يوم أمس الأول، فهيّ حسب اعتقادهم – وحسبما جاء في تصريح الناطق بإسم الحشد الشعبي – طُردت من العراق لأنها كانت تمارس أعمال تجسس لحساب دولة أخرى هي اسرائيل (كالعادة) وأنها دخلت البلد بشكل غير قانوني الخ...

كان التساؤل الأكبر لهؤلاء – الشبّان والشابات – لماذ تركت هذه الالمانية بلدها وجاءت الى العراق؟ أي لماذا تضحّي هذه السيدة الغريبة عن العراق بكل امتيازاتها وعلى رأسها نعمة الكهرباء (7/24) في هذا الصيف اللاهب وتأتي الى العراق لو لم يكن لديها أجندة خفيّة؟ الحقيقة، ليس هناك جواب مقنع للردّ على هكذا سؤال دون اهانة العراق بلدًا وشعبًا. لأن المعنى المخفي ما بين السطور في ذلك السؤال هو: ماذا تفعل هذه الانسانة في بلدنا الذي هو تلّ قمامة أو مرحاض عام وشعبنا الذي هو عبارة عن كائنات غير بشرية تأكل بعضها بعضًا، وتتحمل كل هذه المهانة والخراب الكبير إلا إذا كان لهذه السيدة هدف غير معلن؟ لا مجال لفهم السؤال إلا بهذا الشكل! الشباب الذي يهاجمون كلّ من أدان اختطاف هذه الاجنبية في عاصمتنا المحتلة – من قوى الفساد والعصابات والميليشيات والأحزاب ودول العالم أجمع، لم ينظروا جيدًا الى المعنى الخفيّ في سؤالهم الذي يعيدونه بالحاح كبير مطالبين الآخرين بالجواب عليه.

لكنّ من المؤكّد أن من طرح هذا السؤال أولًا – قبل أن يضعه في أفواههم كان يعني ما يقول ويقصد: أنا أعرف جيدًا أن هذا البلد قذر وشعبه أقذر وأنا هنا رغمًا عن أنفي لأنني مكلّف بمهمة يجب أن اقوم بها، وأن هذه الالمانية لابدّ أن تكون مثلي تمامًا مجبرة على البقاء هنا ومن الواضح أنّ لها مهمة محددّة تقوم بها وإلا فما مبررّ وجودها في هذا الجحيم النتن؟

هذه ليست كلماتي بل انها خرجت من إناء نضح ما فيه مُعبّراً عن مدى احتقاره للعراق بلدًا وشعبًا فيما هو في العلن يرفع أعلام هذا البلد ويدعو الى تحريره من الاحتلال.

الأكيد أن هيلّا ميفيس قدمت الى شباب بغداد من الفنانين والموهوبين ما استطاعت اليه سبيلا. وربما جاءت الى بلد يُذكرّها ببلدها حينما تحوّل في غفلة من الزمن الى الديكتاتورية النازية وجاءت الى العراق لتساهم مع شبابه في منع تكرار ذلك. لكن خطيئتها الكبرى عند مغادرتها بغداد التي أحبتها كانت: أنها كشفت كم هيّ هشة نظرتنا الى بلدنا والى أنفسنا وكم هيّ دونية تقييماتنا لذواتنا وحياتنا وحاضرنا وماضينا ومستقبلنا، حتى أنّ حياتنا لا تستحقّ أن يُنظر لها باحترام وأن يمنحها أحدٌ ما اهتمامه أو حيّزًا في تفكيره!

وتلك خطيئةٌ لا تُغتفرُ لك يا هيلّا.

 

 

 

سعد الشديدي

26/07/2020

 

ليست هناك تعليقات:

شهداء الضمير والكلمة الحرّة ضحايا ارهاب الاسلاميين

ديوان وصايا الليل والنهار

  عن دار الحكمة في لندن صدر ديوان وصايا الليل والنهار للشاعر سعد الشديدي