بالأمس حلمنا، نحنُ وأنتم، بغدٍّ لايشبه بقية الأيام. شمسه، التي لاتشبهها شمسٌ في مجرّةٍ أخرى، تضئُ لتغسل بفورةِ نورها أشجارَ نخيلٍ كانت ستظللّنا بقلبٍ أين منه ظلال الدنيا كلّها. كنّا أنتظرنا أن تخرج مدننا رافعة شوارعها عالياً لترقص به وبنا على حوّاف النهرين العظيمين.
كان حلمنا فيما وراء الزمن والحلم .. أن تصحو الزقّورة من نومها لتعود طيورُ الشقّراقِ تبني أعشاشها في ضفائرِ القمح وفي حبرِ كلماتِ القراءة الخلدونية. حلمٌ راوَدنا، أن ترمحَ خطواتُنا في وطن لا نعرفه ولكنه يعرفُ أسماءنا واحداً واحدا ويحفظُ أسماءَ حبيباتنا عن ظهرِ قلب. كنّا حلمنا طويلاً بيومِ غدّ، الذي جاء.
جاءنا ولكن ليس كما إنتظرنا. فهو حقّاً لايشبه بقية الأيام التي وُلدت وغابت على سهول أور وأكد وصحت عليها حانات بابل ومعابدها الغائبة في رائحة البخور والماوَرد، وليس كالأيام المشتعلة ناراً حيناً والنافخة ثلجاً حيناً آخر وطوت بستائرها الضافية مآذن مدينة السلام، ولايحمل ملامح الأيام التي كانت تُدفأُ قدميها قرب مواقد الرعاة وتختبأ في أكواخ الفلاحين لترى بفضول ما يفعله أبناء إنليل وبنات إينانا بعد أن تنطفئ قناديل المساء.
لم يكن غدُنا كما تلك الأيام. جاء أصفر اغبر يجرّ ورائه عربة خيبته.. خيبتنا. حاملاً معه وعداً بموتٍ لاتسعهُ حتى عباءة أرشيجكال ونجومٍ ستنطفئ تاركةً لنا سماءً سوداءَ نكتبُ عليها بالطباشير قصائدَ رثاء.
أكان غدُنا هكذا لأننا ماخرجنا باحثين عنه كما خرجَ جلجامش ينشدُ الأبدية؟ هل كان هكذا لأننا مافعلنا من أجله شيئاً سوى إننا إنتظرنا ولم نخلقه ولابنيناه كما بنى نوحُ العراقيّ فُلكه لينقذ به سلالة البشر؟
قال كتاب التاريخ: الغدّ الذي لاتصنعه يصنعك.. وإقبل به أنّى يكون.
فمن يقبل بيومٍ بعد يومٍ بعد يوم مليئة كلها بغمام الدم؟
هل نعتذر لشهداء الصالحية وقبلهم شهداء الأربعاء الدامي وقبلهم شهداء الكاظمية وقبلهم شهداء الألف مجزة ومجزرة أم نحرسُ قبور من بقيّ في قيد الأحياء؟
* * *
هكذا ترحلونَ، كما يرحلُ الغيمُ فوقَ سطوحِ المدينةِ. ما أسرع الغيم حين يمرُّ على شارعٍ ميّتٍ يحتفي بعصافيرهِ الباقية. أشرقتِ الشمسُ فوق السبيلِ وفوقَ حبالِ الغسيلِ. ولكّنكم لم تعودوا هنا! لهذا تحوّلَ شارُعنا نخلةً كتبتْ إسمها في سجلِّ الوفيّاتِ.. وانكسرتْ.
أيفاجئنا أن هذا الصباح انزوى في دخانِ الحقول، وبعضُ الوجوهِ ارتمتْ في نظامٍ جميلٍ على الناصية؟
* * *
يحقّ لنا أن نقول بعد غيابكم أن الغدّ الذي أنتظرناه سيأتي؟ ربما! فهانحن، رغم رحيلكم، نتهجى أول حروفه، نضع أحجار بناءه الأولى، نختار حتى ألوان فساتين نسائنا التي سيخرجن بها للقائه، ونخبأُ بعناية العاشق وشوقه بذوره في أرض بدت كما لو إنها ضجرت من عجزنا ولاأُباليتنا. ربما سيطلع ورقةَ آس، أو شمعة تطفو على موجِ النهر، غابةُ طرفاء أو صوت أبوذيّة يسافر بعيداً الى أوتار عود إسحق الموصليّ.
ربما سيكون له لون الورد ورائحة المسك والقهوة والهال, وسيكون هذه المرّة لنا ولكم. لن نستعيره من أحد ولن نفاخر به أحدا لإننا نصنعه لنا ولكم أنتم. وسترونه
من غرفةٍ أو شرفةٍ في السماءْ.
فأخرجوا حيث كنتم، وأجمعوا العشبَ في زورقِ الشهداءْ.
وإزرعوا شجرَ البرتقالِ الذي تعرفون، وغنّوا النشيدَ الذي تعرفون.
ربما يسمعُ الأنبياءْ،
ويقتربون
من اللهِ في نومهم.
لتعودوا إلينا.
------------------
سعد الشديدي
الخميس، أكتوبر 29، 2009
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
شهداء الضمير والكلمة الحرّة ضحايا ارهاب الاسلاميين
ديوان وصايا الليل والنهار
عن دار الحكمة في لندن صدر ديوان وصايا الليل والنهار للشاعر سعد الشديدي
-
مسوّدة ناقصة لصلاة الغائب سلامٌ على قمرِ الخوفِ يومَ يمرُّ علينا، فنسهرُ قربَ الحواجزِ، محترقينَ ... ومفترقينَ لنأكلَ خبز َالأناشيدِ حينَ ...
-
عرضت قناة العربية مساء أمس فيلماً وثائقياً عن برنامجٍ تدريبي لقوة أمريكية في طريقها الى العراق وكيف يتم إعداد المقاتلين الأمريكيين لمواجهة ا...
-
سعد الشديدي وردٌ لإمي وهي تغسلُ وجهَ بغدادَ القديمةِ ... بالمناديلِ النظيفةِ والسحابِ، وردٌ لها، ولصمتها المفهومِ والحزنِ الجليلِ اذا دنى وق...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق