من شرفة الفندق أرى ميدان التحرير، خالياً إلا من بضعة مارة يسيرون بعجالة القافلين الى بيوتهم في الهزيع الأخير من الليل. بقايا لافتات مازالت تتوزع بفوضى أقرب ماتكون الى الكمال على جدران قاهرية تُنبئ عن اسلوبية معماريّة متفردة اندثرت منذ زمن ليس بقصير. ثمتّ سيارة شرطة تدور الميدان مرة واحدة وتغادره بهدوء.
أعود الى جهاز الكومبيوتر المحمول- لا لأسجل ملاحظاتي لمقال صحفي – بل لأستمر في العمل بملصق جديد لشباب نصب الحرية في بغداد، ودون وعي مسبق تنتصب أمامي صورة الميدان في القاهرة والساحة في بغداد وكأنهما غديران يصبّان في نهر واحد، جوادان يقطعان المفاوز نحو واحة ظليلة أو شبّاكان في حجرة يطلّان على ذات المشهد والشاهد.
في الصورة المضيئة على وجه الشاشة الصغيرة يتبدى نصب الحرية وكأنه قادم من كوكب آخر، رغم أنني بتّ أعرفه كما راحة يدي وأحزر عدد قطع الرخام التي أسقطتها رياح الأيام الساخنة من الواجهة التي كانت مهيبة يوماً ما.
أمرّر يدي على النصب في رغبة وادعة للسلام على الطفل الذي تقف، دوماً، حمامة على رأسه والمرأة التي تبكي ابنها القتيل – أم تراها تبكي وطناً بأكمله!
الأشجار المختبأة خلف هيكل نصب الحرية تقف لامبالية كما كانت حين تعوّدتُ أن أمر بها منذ سنين. ثمتّ نخلات تذّكر بأنك في حضرة الفضاء العراقي- فلا عراق دون نخل! هذا النخل الذي جعله السومريون، والآكاديون من بعدهم، شجرة الآلهة أهملناه نحن الى حدّ النسيان في مفردات قاموسنا الجمعي العراقي.
الصورة ظليلة، رغم الغبار الذي يغطيها والسائرون تحت النصب ومن خلفه ومن بين يديه يسيرون هم أيضاً بعجالة الى بيوتهم في الساعات الأخيرة من نهار.
أتوقف طويلاً عند الجندي الذي يحطّم بحركة ملحمية قضبان السجن! وأتساءل إن كان الجندي البرونزي يدرك أن رفاقة العسكريين المسبوكين من لحم ودمّ أدخلونا في سجون لم يستطع أحد سواء كان من معدن البرونز أو من معدن الآلهة أن يحطمها!
الشمس تشرق خضراء فوق هامته، والمساحة الرخامية البيضاء تمنحه جلالاً مضاعفاً. أرّكز بصري على القضبان، أسير الى شرفة الغرفة لأطلّ ثانية على ميدان التحرير في القاهرة محاولاً رؤية ما لايراه غيري، أن أشم رائحة الحديد الصدئ، فيمتد الميدان أمامي أنقى مما كان عليه منذ أشهر قليلة وأكثر ألقاً في عتمة الليل. لاقيود ولاسجانين.
أفكّر أنه ربما في نفس اللحظة، يجلس عراقيون في بغداد ليعيدوا تشكيل الزمن وكما يقول الشاعر الالماني ريلكه "يخربطوا" نظام الفصول، لتكون ساحة التحرير هي الأخرى في سياقها الزماني- المكاني الصحيح.
في اليوم القادم استلمت رسالة تقول إن شباب بغداد واحرارها عازمون على الخروج في التاسع من أيلول في "جمعة ربيع العراق."
لم تأخذني الدهشة، ولكنني سُعدت لأن عراقيين التقوا في بغداد ليعيدوا تشكيل الزمن و"يخربطوا" تماماً كما أراد ريلكه نظام الفصول. فالربيع سيأتي في أيلول وأوراق ذهب أيلول لن تكون صفراء - كما تغني فيروز- لأنه لم يعد واحداً من الفصول بل إرادة ومعنى وكناية.
المشكلة الآن هي كيف سيكون الملصق القادم! هل عليه أن يشبّ عن طوق تجارب ميدان التحرير، وشارع بورقيبة في تونس العاصمة، وساحة الأحرار في تعز، وساحة الشهداء في طرابلس الغرب وساحة اللؤلؤة في المنامة وساحات المدن السورية المنتفضة ليدخلنا في خيمتنا الخاصة تحت نصب الحرية في ساحة التحرير في بغداد؟ أم سيدخل معها كلّها في كولاج واحد مختلف ومتشابه في آن ومن حوله ربيع عربي مخضّر السهول والساحات والكلمات والصور؟
الأيام القادمة ستُظهر ما قد لاتشي به الآن، ولكن شيئاً ما عاجلاً حدثّ منذ قليل أكدَّ أن مفاجآت تدعو الى التفاؤل في طريقها الى الولادة، فقد أتفقت ثلاث مجموعات شبابية عراقية على اصدار ملصق مشترك للدعوة الى التظاهر في "جمعة ربيع العراق" وربما كانت هذه هي المرّة الأولى التي تخرج فيها عدد من المجموعات الاحتجاجية العراقية في ملصق مشترك.
إنها بركات الربيع القادم في تاسوعاء أيلول. فيا ربيع العراق اقترب وليكن الموعد كما هو دائماً في ساحة التحرير – بغداد وجميع ساحات المدن العراقية.
سعد الشديدي