بعد أن تآكل صوت الرصاص ولم يبقَ منه سوى صدى يفوح برائحة الدم.. وبعد أن اختفت قسمات وجوه الضحايا في زحام الساعات المنصرمة تطلّ علينا أصوات قادمة من كهوف عصر لم تنساه أمتنا العراقية بعد، فهو الذي أوصلنا الى مانحن عليه الآن ومازالت في أجسادنا وعقولنا آثارٌ وحروقٌ منه باقية.
أصوات بتنا نعرفها جيداً، تذكّرنا بمن كانوا يدافعون عن الدكتاتورية وممارساتها ويتهمون كل صوت ينتقد الدكتاتور البائد أو واحد من زبانيته بالعمالة للإستعمار وخدمة الأمبربالية والصهيونية. وهاهي رؤوسهم التي تحسب بمهارة الثعالب إتجاه عقرب الساعة السياسية ترتفع من جحورها مرة أخرى لتوّجه أصبع الإتهام لأبناء البصرة الأبطال، الذين خرجوا في مظاهرات السبت الماضي مطالبين بتحسين الإداء الخدمي في محافظتهم، متهمةً اياهم بخدمة أجندة أجنبية. التهمة هي ذات التهمة والأصوات .. دعونا نحزر قليلاً..هي نفس الأصوات ولكن بطبقة وإداءٍ مختلفين الى حدّ ما.
ذات النغمة القديمة والأسطوانة المشروخة تعود من جديد الى وسائل اعلامنا. فمن يخرج مطالباً بأبسط حقوق المواطنة يصبح طبقاً لهؤلاء متورطاً في تنفيذ "مؤامرات" خارجية قصدها النيل من الوحدة الوطنية العراقية. غريب مايقولون ومضحك حدّ القرف فأين هي تلك الوحدة الوطنية التي تتجه تلك الأصابع التي تتحرك في الظلام لتقويضها؟ نستحلفكم الله ايها الإعلاميون من حملة راية قوس قزح المتعددة الألوان والإتجاهات أن تبلغوا تلك المخلوقة التي تُدعى بالوحدة الوطنية، اذا ما التقيتم بها بمحض الصدفة في شارع من الشوارع أو ساحة أو مقهى أو حتى في طلل من أطلال الكبريهات المندثرة، سلامنا واشتياقنا العميق فقد طال غيابها ولم نعدّ نراها إلا في أضغاث الإحلام وأخبروها، رجاءا، بأننا مازلنا بإنتظارها لتساعدنا في تشكيل حكومة جديدة يبدو ان تشكيلها سيطول.!
هذا من جهة، ومن جهة أخرى كان على اولئك الذين فقد اثنان منهم حياتهما أن لايخرجوا للتظاهر والإحتجاج - طبقاً للطبالين والرقاصات وحاملي المباخر الجددّ- ففي العراق مايكفيه من المشاكل ولاداعي لسلوك طريق الغوغاء ومماحكة السلطة الحاكمة وخلق مشاكل جديدة تضيف الى مآسينا أطناناً جديدة من المآسي. أي منطق أعرج أعوج هذا؟! أيعني هذا إن علينا السكوت والموت عطشاً ووجوعاً وشواءاً في قيض الصيف الذي لايرحم كي لا ننكأ جراح الوطن ونفتح جراحاً جديدة للعراق؟ ومن هو العراق.. ألسنا هو نحن ونحن هو؟
أخيراً تردد تلك الببغوات الملونة أن مظاهرات البصرة خرجت بناءاً على أجندات سياسية مستغلةً التدهور الكبير في مستوى الإداء الخدمي الحكومي!! هنا لابدّ لنا أن نشعر بالكثير من الدهشة. ذلك أن مامن مظاهرة تخرج في العالم، حتى تلك التي كانت تخرج فيها برجيت باردو ايام السبعينات الذهبية في باريس مطالبة بحق الكلاب في الحصول على جوازات سفر، إلا ووراءها مقاصد واهداف وجهات سياسية تقدم لها الدعم أملاً في الحصول على أصوات الكلاب المدللة في الإنتخابات القادمة. ومامن ثورة أو انتفاضة حدثت وستحدث في العالم إلا وتكمن خلفها اسباب ودواعي وحراك سياسي قد يستغرق اجيال عديدة في بعض الأحيان. هل تريد جوقة "عدّ وانا أعدّ ونشوف" أن تقنعنا بأن المظاهرات التي كانت تخرج في أربعينات القرن العشرين حاملة شعار الخبز للجياع الخ.. لم يكن وراءها الحزب الشيوعي العراقي مثلاً؟ وهل يعني هذا أن علينا الخروج للتظاهر عند وجود مطالب سياسية فقط؟ وأن على العراقي أن يجلس في بيته "وينلصم" حتى إن أمسى جائعاً عارياً عاطلاً عن العمل مفتقداً الى الأمن والأمان وفوق هذا كلّه لايحصل حتى على أقل الخدمات من الحكومات التي ينتخبها وإلا يصبح هذا المسكين متهماً بأنه يخدم أجندات سياسية أجنبية؟ ومتى يخرج المواطن للتعبير عن غضبه إن لم يخرج حين تصل الخدمات التي تقدمها حكومته الى أدنى مستوياتها؟
من حقهم بالتأكيد أن يقولوا مايريدون- فحق التعبير مضمون بنصوص الدستور للجميع - ولكن علينا أن نهمس في آذانهم أن أسطوانة الدفاع عن الحكومة بأي ثمن وخلق الأعذار لرجالاتها هي اسطوانة قديمة – جديدة، اضحكتنا كثيراً أيام الديكتاتورية السوداء وتضحكنا الآن حدّ البكاء في زمن الديمقراطية الخضراء.
قال الصحابي المجاهد الجليل أبو ذر الغفاري (عليه رضوان الله) "أعجبُ لمن لايجد قوت يومه ولايخرج على الناس شاهراً سيفه". أخفض صوتك قليلاً يا صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله) فثمة كتّاب وصحفيون واعلاميون سيقول كل منهم أن لك بالتأكيد أجندة سياسية، ربما تكون هي الأخرى مؤامرة ضد الوحدة الوطنية.
سعد الشديدي