تصريح رئيس أركان الجيش العراقي السيد بابكر زيباري يوم أمس الأربعاء حول انسحاب الجيش الأمريكي يدعو الى الكثير من التأمل. فالتصريح المقتضب والمحيّر الذي أدلى به السيد زيباري، في مؤتمر عُقد لتقييم جاهزية القوات المسلحة العراقية بعد الانسحاب الأمريكي، يؤكد أن الجيش العراقي ليس قادراً على حماية البلاد قبل حلول عام 2020 في حال انسحبت قوات الإحتلال الأمريكي بشكل كامل من البلاد نهاية العام القادم.
تأملتُ الرقم جيداً لأرى ما اذا كان ثمة خطأ مطبعيّ وراجعت عدداً آخراً من وسائل الاعلام التي نقلت الخبر، للتأكد ليس إلا. ولكن لم يكن هناك من خطأ. فالعام هو فعلاً 2020 وليس قبله حتى تصبح قواتنا المسلحة ناضجة بالقدر الكافي لحماية البلاد، أرضها وبحرها وجوّها وحدودها.
ورغم أن تصريح السيد الزيباري، الذي يحمل رتبة فريق أول ركن، يبدو علمياً وموضوعياً للوهلة الأولى إلا اننا نقرأ مابين السطور أن رئيس أركان جيش العراق الجديد يعرّي نفسه ويفضح جيشه أمام الملأ لأنه يعترف ضمنياً أنه رئيس أركان نصف أو ربما ربع جيش وليس جيشاً كاملاً قادراً على الوقوف أمام مخاطر محتملة فكيف بمخاطر حقيقية ماثلة كتلك التي تسود في عراق مابعد 9 نيسان 2003. إنه يقول بالحرف الواحد أن الجيش الذي يقوده من غرفة عملياته ليس إلا تشكيلات جنينية غير مكتملة النمو ولن تستطيع الوقوف على قدمين ثابتتين إلا بعد سنوات وسنوات.
الأمرالذي يتعارض تماماً مع تصريحات السيد نوري المالكي ووزراء حكومته التي تؤكد دائماً على اكتمال جاهزية القوات المسلحة العراقية لمواجهة الأخطار التي يمكن أن تعصف بالعراق وأصرارهم، جميعاً دون استثناء، على رحيل قوات الإحتلال الأمريكية. ويتضارب بشكل أكثر وضوحاً مع تصريحات الإدارة الأمريكية - بجلالة قدرها - حول قدرة العراق على حماية نفسه "بمساعدة أمريكية بسيطة"!
هناك من يكذب. فهل هو بابكر زيباري أم نوري المالكي ووزراء حكومته أم الإدارة الأمريكية؟
واذا كان العسكريون العراقيون يعرفون أن جيش بلادهم غير قادر على الوقوف بوجه أية مخاطر قادمة فلماذا تُصّر الولايات المتحدة على اتمام انسحاب قواتها في نهاية 2011؟ ألا يعرف العسكريون وخبراء الاستراتجية الأمريكيون بهشاشة وضع القوات المسلحة العراقية؟ وكيف تترك أمريكا البلدَ الذي وعدت أن يكون مناراً للديمقراطية والحضارة في المنطقة، يواجه مصيره المظلم لوحده دون ناصرٍ ولامعين؟
هل أنزل الأمريكيون العراق الى البئر وينوون الآن قطع الحبل به؟
لا أعرف كيف تتخلى أمريكا عن مشروعها "لدمقرطة" الشرق الأوسط وتتركه يتهاوى ويدفنُ جنباً الى جنب مع تجربتها غير المكتملة في العراق ؟ ولكن هل كانت أمريكا تنوي حقاً منذ البداية أن "تدمقرطنا" أم أن انها كانت تدفع كرة الثلج المدمرة في اتجاه زيادة الدمار الذي أحدثته حروب الديكتاتور العبثية وسنوات الحصار الأقتصادي الذي قضى وبشكل شبه كامل على ما كان باقياً من القدرات العلمية والتقنية والثقافية والإقتصادية للعراق؟
في الجانب الآخر فإن الفريق أول ركن زيباري – ولايدري أحد من اية أكاديمية عسكرية حصل على رتبته هذه التي يقضي ضباط حيواتهم بكاملها في العسكرية قبل الحصول عليها!!- يحيل الكرة في تصريحه الى ملعب السياسيين طبقاً لوسائل الاعلام ويرى أن "على السياسيين ايجاد اساليب اخرى لتعويض الفراغ ما بعد 2011، لان الجيش لن يتكامل قبل عام 2020". عفواً سيادة الفريق؟؟ كررّها مرةأخرى من فضلك.. السياسيين؟ هل أنت جاد حقاً؟ تركت الناس بأبيضهم وأسودهم وأحمرهم وأصفرهم وأتجهت صوب السياسيين؟
ألا ترى سيادتكم أن حال السياسيين هو حال العمى؟ فهم لايرون ولايريدوننا أن نرى وتريد منهم بعد ذلك ايجاد أساليب لتعويض الفراغ الناجم عن انسحاب القوات الأمريكية؟ ثم هل استطاع اولئك السياسيين ايجاد اساليب لتعويض أي فراغ آخر حتى الآن حسب علمكم؟ أنظر فقط يا سيادة الفريق الى وضع الكهرباء، والماء والمدارس والمستشفيات. اترك كل هذا وتعال معنا في جولة لترى بعينك هل استطاع رجال السياسة هؤلاء ايجاد حلول للأزبال المتراكمة في شوارع مهمة جداً في العاصمة العراقية، كي تأتي أنت وتطالبهم بإيجاد أساليب لتعويض الفراغ المترتب على أنسحاب القوات الأمريكية؟
نعم هناك فراغ واحد يا سيادة الفريق يمكن لسياسيي العراق الجديد ملئه وهو الفراغ الذي كان في جيوبهم. فقد امتلأت الجيوب - بحمد الله - بمليارات الخزينة العراقية المنهوبة حتى ليعتقد المرء أن قياداتنا الحزبية والسياسية ليسوا إلا مرتزقة في جيوش غازية جاءت لتدمر بلداً معادياً أو أسراباً من الجراد الجائع حلّ كعاصفة سوداء لإلتهام كل ما تصل اليه اياديهم.
ولن نتحدث عن الفراغ الذي نعرفه جميعاً نتيجة السباق الماراثوني اللاعقلاني واللامثمر لتشكيل الحكومة القادمة – هذا اذا كانت ثمة حكومة قادمة.
ولكن ما الحلّ يا سيادة الفريق؟ هل سيُترك العراق للقضاء والقدر ولجيش لايستطيع الدفاع عنه؟ وهل الحل الأخير بأيادي سياسيين يعانون من شلل الارادات والضمائر؟
لن أكون حالماً أو ساذجاً لأقول أن العراقيين كأمة قادرة على حماية نفسها. فالأمة التي لم تستطع حماية نفسها من اغتصاب الدكتاتوريات لها وبشكل متكررّ غير قادرة على حماية نفسها. الأمة التي يُقتل خيرة ابناءها وبناتها كل يوم ولاترفع اصبعاً لحمايتهم غير قادرة على الدفاع عن نفسها. الأمة التي يُسرق تراثها وآثارها ونفطها وماؤها وعلماؤها ومبدعوها ولاتفعل شيئاً غير قادرة بالطبع على الدفاع عن نفسها. الأمة التي لايعرف مواطنوها معنى المواطنة غير قادرة هي الأخرى على الدفاع عن أحد أو عن شئ.
قبل الإنتهاء من كتابة هذا المقال صرّح السيد محمد العسكري الناطق بإسم وزارة الدفاع أن تصريحات السيد زيباري "فهمت خطأ حيث كان يقصد القدرات المستقبلية للجيش العراقي وليس المهام الامنية الداخلية "، وأكدّ السيد العسكري في بيان صحفي " ان القوات الامنية العراقية مستعدة وبكامل الجاهزية لتسلم المهام الامنية الداخلية وفقا للمواعيد المحددة".
ويبدو أن السيد محمد العسكري لم يقرأ تصريحات رئيس أركان الجيش بشكل دقيق وفاتهُ قوله أن "على السياسيين ايجاد اساليب اخرى لتعويض الفراغ ما بعد 2011، لان الجيش لن يتكامل قبل عام 2020" وهذا يعني بالتأكيد أنه سيكون هناك فراغ يقلق قيادة أركان الجيش العراقي. فمن سنصدّق الآن ياوزارة دفاعنا التي لانعرف ان كانت جاهزة للإستخدام أم لا.
أخيراً لن يبقى لنا سوى أن نكمل ما لم يقله السيد بابكر زيباري – أو اراد قوله ولكنه أحجم في اللحظات الأخيرة فأحاله الى السياسيين، وهو أن نطلب بأدب جمّ من الأمريكان البقاء والإمعان في احتلال بلدنا وان نمنحهم شيك على بياض لأن يفعلوا ماشاؤا متى ماشاؤا دون أن يتعرض لهم أحد. وأن نجلس متحلقين وبهدوء تامّ حول الفوانيس في ليل العراق المظلم ونحن نرى العراق يتفكك قطعة بعد أخرى ونشيع أمواتنا قافلة تلو الأخرى بانتظار حلول عام 2020.
فهل سنستطيع ذلك وهل سنتمكن كأفراد وأمة ووطن من البقاء على قيد الحياة حتى ذلك التاريخ؟
ربما، من يدري!
على أية حال رمضان كريم وكل عام والعراق بمدنييه وعسكرييه بخير.
سعد الشديدي