مشهد قد يبدو غريباً في بلداننا.. أن يخرج وزير، أي وزير، ليشارك في حملة تبرعات للأعمال الخيرية. ففي بلداننا يجلس الوزراء في مكاتبهم الموغلة في الفخامة ويجمعون الأموال لحسابهم الخاص وليس لحساب أحد آخر.
لكن وزير الخارجية السويدي، وهو بالمناسبة قائد سابق لحزب المحافظين السويدي ورئيس وزراء سابق وشخصية دبلوماسية عالمية ذات سجل حافل بالنشاط الدبلوماسي على الصعيد الدولي إذ أسند اليه الإتحاد الأوربي مهمة الوساطة في حرب يوغسلافيا السابقة 1995، ومهمة رئاسة الممثلية الدولية في البوسنة لمدة سنتين، لم يجد ضيراً في الخروج الى الشارع لجمع التبرعات لضحايا كارثة طبيبعية حصلت في بلد مسلم يقع على بُعد آلاف الأميال من بلاده.
فيما كان كارل بيلدت يقف بقامته العالية في ستوكهولم ويتجول بين الشوارع والساحات بين آلاف المارّة الذين لم يستغربوا أو يجدوا غظاظة فيما يحدث أمامهم سوى عدد قليل من الشرق الأوسطيين الذين صدمهم المشهد، كان شاب من أصل – يُقال أنه عراقي – يجلس في الظلام ليخطط لعملية تفجير ارهابية تُنفّذ على مقربة من الشوارع التي كان كارل بيلدت يجمع فيها التبرعات لمسلمي باكستان.
هذا الشاب الذي لم يبلغ الثلاثين من العمر جاء السويد كلاجئ وهو مازال طفلاً. هربت عائلته – التي يُقال أنها عراقية – من جحيم الحروب والحصارات أو لأسباب أخرى لايعلمها سوى الشيطان. فتحت السويد له ذراعيها ومدارسها ومستشفياتها وساحات لعبها وشواطئها وغاباتها ومنحته شعوراً بالآدمية لو شعر به هو أو أهله في وطنهم لما غادروه. درس بالمجّان على حساب السويد وشعبها، عولج بالمجان في مستشفياتها ومراكزها الصحية طوال تلك السنين وكان بإمكانه الدراسة في جامعات السويد التي تُعد من أفضل جامعات العالم مجاناً إلا أنه فضّل السفر والدراسة في بريطانيا فحصل على قرض دراسي من الدولة السويدية ودُفعت له جميع تكاليف الدراسة في الجامعة البريطانية التي اختارها. كل ذلك على حساب السويد وشعبها. والأكثر من ذلك منحته السويد – وعائلته – جنسيتها وجواز سفرها الذي يستطيع السفر به عبر ثلاثة أرباع بلاد هذا الكوكب دون الحاجة لتأشيرات دخول.
مع كل هذا جلس هذا الشاب الذي أتضح أن أسمه تيمور وليس في رأسه سوى شئ واحد هو أن ينتقم. ولكن ينتقم ممن ولماذا؟ ماذا لو كان هذا التيمور الذي يذّكر أسمه بتيمورلنك أحد أكبر سفاحي التاريخ الذين قتلوا من العراقيين ما عجز المؤرخون عن احصاءه، عاش في بلد لم يمنحه ما منحته له السويد طفلاً ومراهقاً وشاباً؟ ماذا لو عاش في بلده الذي هرب منه مع عائلته في ليلة سوداء وتجرّع مرارة الذلّ وهوان الجلوس على مقاعد المدارس في أيام الشتاء القاسية وهو يترجف برداً؟ كيف كان رد فعله لو تلقى كل أنواع الإهانات من معلميه ومدراءه ورؤسائه في العمل طوال حياته؟ ماذا لو ذاق طعم الجوع المرّ ومدّ يده في شوارع بلاده التي أتى منها ليحصل على لقمة عيشه؟ وماذا كان فعل وهي يتلظى عند انقطاع التيار الكهربائي في عزّ الصيف اللاهب؟
هذا التيمورلنك القزم لم يذق كل هذا ولم يره ولم يشعر به لأنه كان يعيش في واحد من أفضل بلدان العالم في مستوى المعيشة والخدمات واحترام حقوق الانسان. وعندما تزوّج ورزق أطفاله الثلاثة لم يسهر الليالي ليفكر بمستقبلهم لأن الدولة التي عزم على تدميرها ضمنت له ولهم مستقبلاً واعداً كغيرهم ممن يعيشون في هذه البلاد.
بين موقف كارل بيلدت الذي خرج من مكتب وزير الخارجية الى الشارع لجمع تبرعات لمسلمي باكستان وتيمورلنك القزم الذي كان يحسب أنه يتحدث بإسم مسلمي السويد بون أكبر من شاسع. أنه الفرق بين العقل والجنون، بين الشمعة التي تضئ والريح التي تحاول اطفاءها، بين من ينتمي الى الحياة وذلك الذي لايريد سوى الإنتماء الى عالم الموت.
سأشعر بالكثير من الخجل اذا تأكد أن ذلك الإرهابي تيمور عبد الوهاب العبدلي عراقي بالفعل. ولكنني أشك وأشكك بعراقيته فالعراقيين يملؤون بلدان العالم وهم يحملون معهم أينما حلّوا شمس السومريين وينثرون جمال عشتار البابلية على طرقات وبيوت المدن التي إستضافتهم الى حين عودتهم الى وطنهم بسلام ولو بعد حين، ويمنحون لمن حولهم إيمان علي بن أبي طالب (ع) وحكمة فلاسفة العراق عبر العصور وأروع الملاحم والقصائد التي خطتها أقلامهم من يوم أن كُتبت أول الكلمات على رقيم من طين الجنوب العراقي.
أما ظلام تيمور هذا الزمان وتيمورلنك القادم من الحقبة المظلمة وآلهتهما الدموية التي تعشق رائحة الدم البشري ويُسعدها منظر الأجساد المتناثرة على الجدران فبعيد عن ديانات العراقيين ومعتقداتهم وثقافتهم وتفصله عن العراق وشعبه نفس المسافة التي تفصله عن وزير خارجية السويد كارل بيلدت الذي خرج الى الشوارع ليجمع التبرعات لمسلمي باكستان.
سعد الشديدي