منذ ساعات غادر آخر الجنود الأمريكيين شوارع المدن العراقية. هذا يعني ان الآليات الثقيلة المغطاة بشباك التمويه التي كانت تجوب مدننا لم يعد مسموحٌ لها أن تفعل ذلك. وإن الهمرات المدججة بالسلاح والمقاتلين والتي كانت تسير أينما تريد وبالشكل الذي تريد، ليس في الشوارع فقط بل وأحياناً على الأرصفة وأينما شائت، لم تعد قادرة على فعل ذلك. وإن السيطرات الأمريكية لن توقفنا لساعات طويلة في الشمس المحرقة والمفارز الأمريكية لن تطرق علينا الأبواب في آناء الليل وأطراف النهار لتفتيش بيوتنا الخالية من كل شئ إلا من بعض الإصرار والعناد العراقيين.
يقول البعض إن هذه الخطوة تشكّل إنتصاراً للجهد الوطني العراقي، بينما يقلل البعض الآخر من شأن ماحصل هذا اليوم لأنه ليس أكثر من خطوة صغيرة على طريق الإستقلال الناجز. المتشائمون, ولدينا الكثير منهم والحمد لله، يقولون أن إنسحاب القوات الأمريكية من المدن جاء قبل أوانه، بينما يصرّح آخرون أن العراق سيشهد المزيد من التوترات. وسواء أصابوا أم أخطئوا فإننا الآن أمام إمتحان لاتراجع فيه.
الغريب إن الأكثرية الساحقة ممن أعربوا عن سعادتهم أو تفاؤلهم الحذِر أجمعوا على أن هذا الإمتحان لايشمل سوى القوات المسلّحة التي يجب عليها التأهب للردّ على أي إعتداء إرهابي أو معالجة أي خرق أمني سيظهر فيما بعد!!
والواقع أن هذا الإمتحان التاريخي لايعني القوات المسلحة إلا من باب كونها جزء من الشعب العراقي لاغير. أما التحدي الأكبر فهو أمام العراقيين جميعاً مدنيين وعسكريين. فالإرهاب لايستهدف العسكريين فقط بل يستهدف كما رأينا المدنيين اولاً ولايحصد أرواح الجنود والضباط العراقيين فحسب بل أرواح الآف من المدنيين الذين لم يحملوا يوماً سلاحاً حتى ولو سكين مطبخ.
فهل نحن مستعدون لمواجهة قوى الإرهاب والظلام؟ وهل سنرمي الكرة، كما أعتدنا دائماً، في ملعب الجيش والشرطة ولا نعترف بأن علينا جميعاً واجب حماية العراق الجريح وتجربته التي مازالت تحبو؟
إن إلقاء المسؤولية على القوات المسلحة العراقية لوحدها دون سواها لحفظ الأمن والنظام بعد الإنسحاب الأمريكي الجزئي يشكّل خطراً قاتلاً من أكثر من ناحية، أولها إننا سنسلم لحانا الى المؤسسة العسكرية وسنعطيها الفرصة الكاملة لتفعل ما تشاء وفي هذا الحالة ستعود حليمة الى عادتها القديمة، ونرجو أن لايحدث هذا خصوصاً وأنه لم تبدر حتى الآن أيما بادرة تشير الى رغبة القوات المسلحة ضباطاً وجنوداً الى السيطرة على المؤسسة السياسية، ولكن الإحتمال يبقى وارداً فمن ذا الذي يرفض الجلوس على كرسي رئاسة الجمهورية أو رئاسة الوزراء والتحكم بخيوط الأحداث بالريموت كونترول والأوامر الرئاسية أو الوزارية؟ وهم في نهاية الأمر بشر غير معصومين.
أما الناحية الثانية فتمسّ الحالة السياسية ذاتها، ذلك إن أحداث العنف في العراق لها خلفيات سياسية معروفة. وهي تتصاعد وتنخفض بوتيرة واضحة نستطيع إستقراءها من خلال فهم الوضع السياسي ولاتُعالج إلا من خلال الحوار الوطني الشامل، الذي يبدو أنه بدأ يتلكأ في الآونة الأخيرة.
العراقيون على ثقة بأن أفراد القوات المسلحة سيفعلون مايستطيعون وتبقى المسؤولية الأهم على عاتق القيادات السياسية التي يجب عليها هي الإخرى أن تتوصل الى مرحلة من السلام "العادل والشامل" في الساحة السياسية العراقية.
الأمور تسير على مايرام حتى الآن. ولكن احداً لايعرف ماذا سيحدث غداً أو بعد غد. ومع ذلك فنحن جاهزون لكل الإحتمالات. فالشعب الذي لم تستطع قوى الديكتاتورية والطغيان أن تكسر شوكته، والشعب الذي ذاق قساوة الجوع والفاقة في سنوات الحصار، والشعب الذي تعرّض الى أكبر حملة إبادة منظمة على يد قوى الظلام والإرهاب منذ أكثر من ست سنوات حتى الآن لن تكسره مفخخات القاعدة ولا إجرام القوى الإقليمية ولا الدمار الذي يحيط به أينما حطّ ورحل.
والعراقيون جاهزون لكل الإحتمالات.
الثلاثاء، يونيو 30، 2009
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
شهداء الضمير والكلمة الحرّة ضحايا ارهاب الاسلاميين
ديوان وصايا الليل والنهار
عن دار الحكمة في لندن صدر ديوان وصايا الليل والنهار للشاعر سعد الشديدي
-
مسوّدة ناقصة لصلاة الغائب سلامٌ على قمرِ الخوفِ يومَ يمرُّ علينا، فنسهرُ قربَ الحواجزِ، محترقينَ ... ومفترقينَ لنأكلَ خبز َالأناشيدِ حينَ ...
-
عرضت قناة العربية مساء أمس فيلماً وثائقياً عن برنامجٍ تدريبي لقوة أمريكية في طريقها الى العراق وكيف يتم إعداد المقاتلين الأمريكيين لمواجهة ا...
-
سعد الشديدي وردٌ لإمي وهي تغسلُ وجهَ بغدادَ القديمةِ ... بالمناديلِ النظيفةِ والسحابِ، وردٌ لها، ولصمتها المفهومِ والحزنِ الجليلِ اذا دنى وق...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق