كنّا نعتقد في زمن الديكتاتورية أن مصيبة المصائب في العراق تكمن في شخص صدام حسين وفي نظامه الذي كان يحكم بلادنا بالحديد والنار والإرهاب والسجون وبالإغتيالات ومصادرة الحرّيات السياسية والنقابية والدينية.
وكان ظنّنا، بل ايماننا، أن جميع تلك الظواهر ستختفي ما أن ننجح في اسقاط ذلك النظام الذي أدخل العراق في مغامرات وحروب تتضاءل امامها مسرحيات صاموئيل بيكيت وجان جينيه وهارولد بنتر العبثية.
سقط النظام ولكن شيئاً لم يتغيّر.
صحيح، وعلينا الإعتراف أمام الله الواحد وأمام التاريخ أننا نلنا بعض الحقوق التي طالمنا حلمنا بها وأولها حقّ الإنتخاب، وبأننا ضربنا أرقاماً قياسية في عدد الإنتخابات والإستفتاءات فاقت جميع الدول في منطقتنا. وصحيح أيضاً أن وسائل الإعلام في بلادنا تضخمت عددياً بشكل مهول حتى أصبحنا لانستطيع معرفة العدد الحقيقي للقنوات الفضائية والصحف اليومية والمجلات العراقية، وأصبح كل مليونير ورئيس حزب– أو زوجة رئيس حزب في بعض الحالات - وكل روزخون وشيخ عشيرة أو قائد ميليشيا يملك قناته الفضائية أو على الأقل صحيفته اليومية الخاصة! وصحيح أيضاً أن عدد الأحزاب السياسية فاق عددها في أمريكا أو بريطانيا. وصحيح أن منظمات حقوق الإنسان أصبحت واسعة الإنتشار وضاربة الجذور في واقعنا العراقي حتى أن كل حارة وكل دربونة وكل عائلة تملك الآن منظمتها الخاصة لقضايا وشؤون حقوق الإنسان الناطقة بإسمها.
ولكن... ومع هذا كلّه... بقيت الأوضاع كما هيّ!
ففي زمن الديكتاتورية كنّا نموت بالآف في حروب نخوضها نيابة عن الأمة الواحدة ذات الرسالة الخالدة، والآن نموت بأعداد لاتقلّ عن تلك التي في زمن الديكتاتورية في حرب نخوضها نيابة عن العالم – العالم بأسره هذه المرة !!– ضد الإرهاب.
لم نكن نشعر بقيمتنا كمواطنين ولانرى حقوقنا كبشر في زمن الديكتاتورية. والآن؟ هل أصبح لنا أيّما قيمة في عراق الديمقراطية الجديد؟ هل أمست حكومة بلادنا ودولتنا الجديدة تحترمنا مثلما تفعل الحكومات والدول في هولندا أو السويد أو حتى تنزانيا وبوركينافاسو؟
في زمن الديكتاتورية كان رجال الأمن والمخابرات يقتلون المعارضين في سجون النظام وأقبيته السرية فأصبحنا الآن أحراراً في ممارسة تلك الهواية علناً وأمام الكاميرات لابل نفتخر بها ونطلق الهوسات والأناشيد الحماسية فخراً بضربنا أحد المعارضين حتى الموت بينما هو يسحب آخر انفاسه بصعوبة تستطيع معها أن تسمع صوت حشرجته وأنت جالس في بيتك أمام شاشة التلفزيون، وبغض النظر عمّا اذا كان مجرد معرض سياسي مسالم أو ارهابي من أبناء الزواني فأن مصيره يجب أن يحددّه القانون وحده لارجال الأمن والأجهزة الخاصة في دولة نريد لها أن تكون دولة قانون حقيقة وليست بالأسم فقط.
في زمن الديكتاتورية إحتكرَ الحزب القائد الأجهزة الأمنية للمقربين والمحبين والأتباع والأقارب والأعضاء والأنصار والمؤيدين. فهل تغيّر ذلك؟ أنظروا فقط الى الأجهزة الأمنية وعدد أعضاء حزب واحد من احزاب حكومة "الوحدة الوطنية" الحالية الذين تمّ تعيينهم خلال سنوات قليلة في تلك الأجهزة!!
في زمن الديكتاتورية كان القائد الضرورة وعائلته وكبار مسؤولي النظام وأزلامه يحوّلون المليارات من الدولارات من ميزانية الدولة والوزارات والمشاريع الحقيقية والوهمية لحساباتهم الشخصية في مصارف وبنوك خارج العراق. منذ سقوط النظام المقبور قبل سبع سنوات أختفى ما لايقل عن 22 مليار دولار من ميزانية الدولة. أين ذهبت وفي أي مصارف حطّت هذه المليارات رحالها وفي حساب أي من قادة العراق الجديد؟ هذا بغض النظر عن وصول بلادنا الى أعلى المراحل والدرجات في الفساد المالي والإداري ونَيلها الجائزة الأولى في ذلك بين جميع دول العالم.
السؤال الذي لايجب أن نعبره دون ملاحظة هو لماذا مات صدام وبقيت الصدّامية على قيد الحياة؟
رأينا جميعاً كيف تدلّى صدام حسين من حبل المشنقة. فلماذا لم نتمكن من إعدام نهج وأسلوب صدام حسين وطريقة سلوكه وتفكيره؟
السؤال الأكثر أهمية هو هل سقط نظام صدام حسين حقاً؟
لماذا أذن هذا الموت، والدمار والعبث وكلها مازالت مظاهر يومية تلازم حياتنا حين نصبح وحين نمسي؟
وهذا الموت الذي يحصدنا متى وأين شاء، كيف.. لماذا أصبح الحقيقة الوحيدة الأكيدة في تلك البقعة الكسيحة التي نسميها الوطن؟
السؤال الأكثر أهمية من كلّ هذا وذاك... أليست القيادات التي حكمتنا منذ بداية تأسيس ما يسمى بالدولة الوطنية العراقية حتى الآن هي نتاج مجتمعنا العراقي؟ هل جاء نوري السعيد مثلاً من بلجيكا وصالح جبر من كازاخستان؟ وهل كان عبد الكريم قاسم مواطناً في كوكب الزُهرة حطّ في بلادنا على متن مركبة فضائية مصنوعة من معدن مجهول؟ وصدام حسين... هل جاءنا من سنغافورة؟ وهل المالكي وعلاوي والجعفري من رعايا كوريا الجنوبية؟ أليس جميعهم من العراقيين؟
لماذا يجعل كرسي السلطة في بلادنا القادة والمسؤولين يتصرفون وكأنهم آلهة؟ يحيون ويميتون، يهبون ويأخذون؟ يقتلون ويسرقون، ويمارسون أخسّ المؤامرات على بعضهم البعض وعلينا؟ وهل يجب على رجل الدولة والسلطة في عراقنا أن يكون قاتلاً وسارقاً وابن حرام كي ينال اعترافنا بفحولته العسكرية ودهاءه السياسي؟
وهؤلاء الإرهابيون الذين يفتحون كل يوم صندوق الميدوزا ذات الرأس الذي تتدلى منه الأفاعي البشرية؟ لاشكّ أن عدداً منهم تمّ استيراده من دول عربية نعرفها جيداً. ولكن من يفتح لهم بيته ويخفيهم ويسهّل تحركاتهم ويهبهم بنات عشيرته ليصبحن ملك يمين أو زوجات مؤقتات يروحنّ عن القتلة وشذّاذ الآفاق؟ الجواب نعرفه جميعاً.
الآن وبعد كل هذا، هل صحيح أن العراق لايلد سوى قادة من القتلة الذين يقتلون ليُقتلوا فيما بعد؟ ومناضلين ومجاهدين يتلذذون بتفجير ابناء جلدتهم من الأبرياء الذين لايريدون سوى حق العيش بكرامة في وطن وإن كان منكوباً خرِباً؟
وهل علينا أن نعيش هكذا الى أبد الآبدين محكومين بقائد أوحد لاينوي أن يغادر كرسيه إلا جثة هامدة حتى لو كلّف ذلك حياة الملايين من مواطني بلاده، وإرهابيين من الوحوش والقتلة المصابة بداء الكَلَب لايريدون أن يغادرونا إلا جثثاً متفحمّة؟
السؤال أكبر من أن يُجاب عليه بنعم أو لا. والجواب لايعرفه سوى ذلك العراقي الذي زيّن زقورات أور بأحجار الفسيفساء الذهبية، وكتبَ ملحمة جلجامش وأغاني إينانا على ألواح الفخار، ورفعَ برج بابل وحدائقها العالية في محاولة منه للوصول الى آفاق لم يصلها أحد قبله، وأولئك الذين يخرجون كل يوم مع العصافير ليكدحوا في حرّ الشمس اللاهبة ويعودوا عند الغروب حاملين معهم خبزهم...كفاف يومهم، ولايتمنون سوى العيش أحراراً مكرّمين على بقعة الأرض التي تتاخم من جهة أسوار الفردوس الأعلى ومن الأخرى بوّابات جهنم.
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
شهداء الضمير والكلمة الحرّة ضحايا ارهاب الاسلاميين
ديوان وصايا الليل والنهار
عن دار الحكمة في لندن صدر ديوان وصايا الليل والنهار للشاعر سعد الشديدي
-
مسوّدة ناقصة لصلاة الغائب سلامٌ على قمرِ الخوفِ يومَ يمرُّ علينا، فنسهرُ قربَ الحواجزِ، محترقينَ ... ومفترقينَ لنأكلَ خبز َالأناشيدِ حينَ ...
-
عرضت قناة العربية مساء أمس فيلماً وثائقياً عن برنامجٍ تدريبي لقوة أمريكية في طريقها الى العراق وكيف يتم إعداد المقاتلين الأمريكيين لمواجهة ا...
-
سعد الشديدي وردٌ لإمي وهي تغسلُ وجهَ بغدادَ القديمةِ ... بالمناديلِ النظيفةِ والسحابِ، وردٌ لها، ولصمتها المفهومِ والحزنِ الجليلِ اذا دنى وق...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق