قبل أن تصل قدماه ماء النهر أحسّ بوخزةٍ في خاصرته ورأى كرة اللهب تدور مستغيثةً على صدره. تحوّل نورُ الصباح
الباكر الى ظلمةٍ ذكرّتهُ بيوم القيامة، وتساءلَ إن كانت قيامته قد جاءت هكذا فجأة دونما علامات. رددّ الشهادتين على عجل وحاول أن يستذكرَ، وعلى عجلٍ أيضاً، وجوه أولئك الذين عبروه، تحت قيضِ الشمس المحرقةِ وفي ضوء المصابيح التي حملها على راحتيه برفقٍ لينير طريقهم لأكثر من سبعينَ عاماً. سمع رجعَ خطاهم.. واحداً واحدا وأصوات الضحكات وغمرَهُ صمت الهمسات التي طالما تطايرت على جنبه مع ماء المطر وبرد كانون. وعليه هبطت من أعالي السماوات أرقام السيارات ورائحة إطاراتها المنهكة وهي تعبره مسرعة حتى دون أن تلقي عليه التحية.نظر الى الحروف التي خطتها أنامل البشر على أضلاعهِ المعدنية. بعضها مازال مشرقاً ينبض بدفأ العاشقِ وبعضهاالآخر أكلهُ الصدأ. أدار وجههُ متفقداً أعشاشَ العصافيرِ المسمّرة في مخابئ زواياه وأسعده أن كثيراً منها مازالت ترقدُ بهدوءٍ في أماكنها. في الأعالي تحلّق طائرةٌ سمتية. أزعجهُ صوتُها. وفكّر بقلق: ألم أصلِ الماءَ بعد؟لسببٍ لا يعرفه فكّر أن تاريخه لم يكن حافلاً بحدثٍ زلزلَ الدنيا وشغلَ الناس، فلم يسقط عليه جعفر ولا سال عليه دمُّ شمران. ولكنه كان يشعرُ مع ذلك بالرضى. فهو يصلُ بين الضفتينِ ناقلاً رحيق بغداد من ميسمها الى تاجها، ومن تاجها الى ثغورها فاتحاً ذراعيه حتى لصغارِ النملِ وهي تعود متعبَةً الى قراها النائيةِ تحتَ الأرضِ.قبل أن يصلَ الماءَ تلقتهُ كلماتُ "ابسو" اله المياه العميقة وأمتدت يدانِ من عشبٍ أخضرٍ تحملُ شموعَ الأحتفاءِ بالعودةِ منَ الموتِ على كَرَبةٍ من سعفِ نخلةٍ بابلية. تنّفس عميقاً وأحس بصدرهِ يرتطمُ محترقاً بماءِ النهر. وغابَ بين موجتين.ثمةَ صوت لم يسمعه من قبل، خالهُ في البداية غناءَ الملائكةِ التي تحتفي بأرواح الغرقى. ولكنهُ تأكدّ أن ذلك لم يكن سوى صراخَ الأمواجِ التي تلقته على الراحات كيلا يشعر بالألم. غمرهُ شعورٌ باهتٌ بالخجلِ، أن يكونَ قد آذى ماءَ النهرِ وكسّر أمواجَه على الضفتين. أرادَ الإعتذار. فتحَ فمه المتفحّم وحاولَ أن يقولَ شيئاً ما. لكنه لم يستطع.- حاولْ مرةً أخرى وإن لم تنجح فمرة ثالثة. وهكذا فعل. فماخرجت من فمه كلمةٌ واحدة.عندما تيقنّ أنه لم يعد قادراً على الكلام تحسسّ جسده الممزق وأقدامه التي تمتدّ عميقاً في الماء.... وعرفَ أنه قد مات.نظر الى بغداد ودارت عينيه في سماواتها وساحاتها وغابات نخيلها الواجمة وتساءل بجزع: كيف سيبلغها بخبر موته!
الباكر الى ظلمةٍ ذكرّتهُ بيوم القيامة، وتساءلَ إن كانت قيامته قد جاءت هكذا فجأة دونما علامات. رددّ الشهادتين على عجل وحاول أن يستذكرَ، وعلى عجلٍ أيضاً، وجوه أولئك الذين عبروه، تحت قيضِ الشمس المحرقةِ وفي ضوء المصابيح التي حملها على راحتيه برفقٍ لينير طريقهم لأكثر من سبعينَ عاماً. سمع رجعَ خطاهم.. واحداً واحدا وأصوات الضحكات وغمرَهُ صمت الهمسات التي طالما تطايرت على جنبه مع ماء المطر وبرد كانون. وعليه هبطت من أعالي السماوات أرقام السيارات ورائحة إطاراتها المنهكة وهي تعبره مسرعة حتى دون أن تلقي عليه التحية.نظر الى الحروف التي خطتها أنامل البشر على أضلاعهِ المعدنية. بعضها مازال مشرقاً ينبض بدفأ العاشقِ وبعضهاالآخر أكلهُ الصدأ. أدار وجههُ متفقداً أعشاشَ العصافيرِ المسمّرة في مخابئ زواياه وأسعده أن كثيراً منها مازالت ترقدُ بهدوءٍ في أماكنها. في الأعالي تحلّق طائرةٌ سمتية. أزعجهُ صوتُها. وفكّر بقلق: ألم أصلِ الماءَ بعد؟لسببٍ لا يعرفه فكّر أن تاريخه لم يكن حافلاً بحدثٍ زلزلَ الدنيا وشغلَ الناس، فلم يسقط عليه جعفر ولا سال عليه دمُّ شمران. ولكنه كان يشعرُ مع ذلك بالرضى. فهو يصلُ بين الضفتينِ ناقلاً رحيق بغداد من ميسمها الى تاجها، ومن تاجها الى ثغورها فاتحاً ذراعيه حتى لصغارِ النملِ وهي تعود متعبَةً الى قراها النائيةِ تحتَ الأرضِ.قبل أن يصلَ الماءَ تلقتهُ كلماتُ "ابسو" اله المياه العميقة وأمتدت يدانِ من عشبٍ أخضرٍ تحملُ شموعَ الأحتفاءِ بالعودةِ منَ الموتِ على كَرَبةٍ من سعفِ نخلةٍ بابلية. تنّفس عميقاً وأحس بصدرهِ يرتطمُ محترقاً بماءِ النهر. وغابَ بين موجتين.ثمةَ صوت لم يسمعه من قبل، خالهُ في البداية غناءَ الملائكةِ التي تحتفي بأرواح الغرقى. ولكنهُ تأكدّ أن ذلك لم يكن سوى صراخَ الأمواجِ التي تلقته على الراحات كيلا يشعر بالألم. غمرهُ شعورٌ باهتٌ بالخجلِ، أن يكونَ قد آذى ماءَ النهرِ وكسّر أمواجَه على الضفتين. أرادَ الإعتذار. فتحَ فمه المتفحّم وحاولَ أن يقولَ شيئاً ما. لكنه لم يستطع.- حاولْ مرةً أخرى وإن لم تنجح فمرة ثالثة. وهكذا فعل. فماخرجت من فمه كلمةٌ واحدة.عندما تيقنّ أنه لم يعد قادراً على الكلام تحسسّ جسده الممزق وأقدامه التي تمتدّ عميقاً في الماء.... وعرفَ أنه قد مات.نظر الى بغداد ودارت عينيه في سماواتها وساحاتها وغابات نخيلها الواجمة وتساءل بجزع: كيف سيبلغها بخبر موته!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق