حين يغيب السياسي يترك ورائه منصباً، وحين يغيب المثقف يترك ورائه فراغاً... لا يملؤه أحدٌ سواه.
والفراغ الذي تركه كامل شياع في عراق مابعد نيسان 2003 قد يكون أكبر من أن نستطيع إستيعابه الآن، إذ ليس بمقدور الألم ولاالمراثي ولا حتى أكبر جرعات الأمل الأصطناعي، الذي تحرص القيادات السياسية في عراقنا الجديد على حقننا به كل ما ضاقت بها وبنا السبل، أن تردم ولو جزءاً صغيراً منه.
دخل كامل شياع في غيابه الخاص تماماً كما كان متمكناًَ في حياته على أن يكون له حضوره الخاص، مع فارق صغير هو أنه غيابه كان رغماً عنه وبقوة المسدس وكاتم الصوت.
وربما كان يعي حين عاد الى العراق الحزين قبل خمسة أعوام مسلّماً نفسه لحكم القدر بقناعة ورضى (1) أن الطريق الذي أختاره ليس بالسهل وأن أقل مايقال عنه أنه كان وما يزال يمرّ في منطقة رمادية لم يرتدْها أحد من قبل ولم يختبر عراقيٌّ من أبناء زمننا وعورتها وغموضها. فالعراق الحديث وعلى الرغم من وحشية تاريخه السياسي لم يشهد حتى في أشد مراحله قتامة مشهداً كهذا، يسيل دماً ودموعاً وحِمماَ على ركام الخارطة السياسية مخلفاً ورائه هيكلاً صدئاً لشئ كان أسمه وطن.
لذلك سار كامل محتضناً زاده وزوّّاده، الذي كان على الأغلب عدداً كبيراً من الكتب المرتبة بعناية في رفوف ذاكرته والملفوفة بحرير الحُب الخالص لوطنه وشعبه، في طريق لا يعرف هو ولاغيره اين يؤدي وأين ينتهي. جلّ ما كان يعرف أنه أصبح بإرادته رائداً لمجاهل قاحلة في بلد تكاد تنحسر فيه روح التضامن والمواطنة (2) وأصبح ملعباً لحالة سياسية موغلة في الشذوذ يعلن أكثر لاعبيها عن نوايا سليمة وسلميةً فيما هم يمارسون في الخفاء كل أشكال القرصنة والعنف ولا يترددون للحظة واحدة في تصفية من يختلف معهم في التفاصيل الصغيرة فكيف بمن يختلف معهم فيما يدعونه بالثوابت؟
أدى ذلك، كما نعرف جميعاً، الى حدوث أستقطابات سريعة أجبرت أصحاب المشروع التنويري، وكامل شياع في مقدمتهم، على أختيار الخندق الذي سيقفون فيه لمواجهة الموت أو الهزيمة.
المعركة كبيرة أذن، الداخل فيها مفقود والخارج منها مولود، وهي تزداد شراسة يوماً بعد يوم. ومع ذلك آثر كامل شياع أن لا يحمل مسدساً أو رشاشاً نصف أخمص يخفيه تحت جاكيته أو تحت مقعد سيارته. فهو لم يكن يجيد أستعمال السلاح ولم يكن يرى ان حلول مشكلات الوطن تخرج من فوهة البندقية أو المفخخة أو الحزام الناسف. وبقيّ كما كان دائماَ يفضلّ استعمال الكلمة على القنبلة اليدوية والحوار على كاتم الصوت.
ولابدّ أن نؤكد هنا أن كامل شياع يختلف عن جميع أولئك الذين يموتون يومياً في مدن العراق المقهورة تحت حوافر الغزاة وحقد الوحوش الأتية من آفاق الأرض ومن المناطق المظلمة في مدننا وقرانا واللاوعي الجمعي على حدّ سواء. فهو أختار موته على خلاف العراقيين ممن ترمى جثثهم المجهولة الهوية كل صباح في الشوارع ومجاري الأنهار من الذين يموتون بالصدفة أو يحيون بها. جميعهم بلا أدنى شكّ شهداء هذا الوطن، مع أختلاف بسيط: القدرة على إتخاذ قرار الموت والحياة.
أستمر كامل شياع في السير نحو مشروع كان يعرف جيداً أنه يعيش حالة من التراجع الدائم. فالعراق الجديد الذي غادر من أجله منفاه الأوربي لم يرَ منه هو ولاغيره من العراقيين حتى إرهاصاته البسيطة التي تدلّ على إنبثاق بداياتٍ ما تؤكد خروج براعمه الأولى الى الحياة. فبدلاً عن نظامٍ ديمقراطي حقيقي، أقسموا أغلظ الأيمان بانهم سيبنوه ليكون منارة للأشعاع في المنطقة، حصلنا على نظام أنتخابي أعرج يحمل في ثناياه أسوأ سمات الطائفية والقومية الشوفينية ويسمح لها بالنمو والتكاثر السرطاني على حساب المشروع الوطني الديمقراطي. وبدلاً عن سيادة دولة القانون سيطرت على بلدنا مجموعات من الميليشيات والأحزاب الطائفية والقومية والدينية والمجموعات المسلحة التي نشأت وقويت عظامها في ظلّ حالة سياسية مريضة.
كان كامل يرى كل ذلك ولعله كان يحسب حساب كل شئ إلا التراجع. فما تراجع وبقي متمسكاً بأمل تتقلص مساحته كل يوم. وهنا بالذات يكمن مأزق المثقفين اليساريين في عراقهم الجديد، والمنتمين منهم للحزب الشيوعي العراقي على وجه التحديد.
فقد دخلوا في عملية سياسية معقدةٍ وغريبة وكانوا من روادها الأوائل. تهيئوا لها منذ سنين بالمؤتمرات والكونفرسات، وبالمشاركة الفاعلة مع غيرهم من أحزاب المعارضة في تحديد ملامحها وآفاقها آنذاك ويبدو أنهم حصلوا أيضاً على ملامحها العامة منذ زمن ليس بالقصير. وقد يكون من أفضل الأدلة على أن الحزب الشيوعي العراقي كان على علم ببعض خطوط المشروع الأمريكي أنه قام في تسعينات القرن الماضي بفصل تنظيم منطقة كردستان عن جسد الحزب ليكون حزباً قائماً بحد ذاته. الأمر الذي قد يشير الى أن قيادة الحزب كانت تعرف سمات المشروع الذي تمّ إعداده لمرحلة مابعد سقوط الديكتاتورية. ويحمل توقيت عملية فصل تنظيم كردستان عن الحزب في ذلك الوقت بالذات وتأسيس حزب شيوعي كردي الكثير من علامات الإستفهام. ولا نريد التجني على الحزب الشيوعي العراقي ونتهمه بأنه كان أول من شرعن عملية تقسيم الوطن ومهدّ لأنفصال المنطقة الكردية عنه ولكن التفكير والتحليل الموضوعيان لا يتركان بُداً من طرح السؤال: لماذا مزّق الحزب الشيوعي العراقي نفسه على أسسٍ قومية في تلك الفترة بالذات؟ ألم يكن حزب فهد وسلام عادل دائماً حزباً للعراقيين جميعاً بغض النظر عن الدين والعنصر والقومية والطائفة والجنس؟
هكذا أذن دخل الحزب الشيوعي الى العملية السياسية من أوسع أبوابها وأصبح أمينه العام عضواً في مجلس الحكم الذي أسسه ﭙول بريمر. وأصبح شريكاً في العملية السياسية التي تدور رحاها في عراق اليوم ممنياً نفسه أن مرحلة جديدة حقاً ستبدأ في عراق عانى الأمرّين طوال عقود عديدة، وأن دوراً ما ينتظره في تلك المرحلة.
ولكن يبدو أن الآفاق الواسعة التي كان الحزب يتحرك فيها بدأت بالتقلص شيئاً فشيئاً. فالأحزاب الدينية باتت تسيطر الآن بالكامل تقريباً على الساحة السياسية وتحرص بشكل مستمر على أن يكون لها الكلمة العليا واليد الأعلى في اللعبة السياسية سواء في البرلمان أو الشارع. والدولة التي حصل الحزب الشيوعي العراقي فيها على مكان لا بأس به في البداية أخذت حدودها تنحصر في عملية توافقية محكومة بمعايير طائفية وقومية ومناطقية هي بكل المعايير ليست في صالح الشيوعيين.
ومرة أخرى وجد أعضاء وكوادر الحزب الشيوعي العراقي أنفسهم في وضع يشبه ذلك الذي كانوا فيه إثناء فترة حكم الزعيم عبد الكريم قاسم. إذ كانوا محسوبين على النظام ولكنهم كانا يتلقون الضربات منه. كان عليهم العمل مع نظام أنقلب عليهم وبدأ بملاحقتهم، والدفاع عنه في السرّاء والضرّاء.
ويشبه أيضاً وضعهم إبان تحالفهم مع حزب البعث فيما سميّ بالجبهة الوطنية والقومية التقدمية. كان عليهم الدفاع عن سياسات "حلفائهم" بينما هم يتلقون الضربة تلو الضربة من أولئك الحلفاء. ويعلم جميعنا حجم الخسائر التي حاقت بالحزب نتيجة تلك التجربة.
والآن يتبنى الحزب الشيوعي العراقي وبشكل كامل مساندة العملية السياسية الدائرة في العراق. ويدفع خسائر من دماء كوادره وأعضائه فداءاً لعراقه الجديد، في الوقت الذي تطفو على السطح الكثير من الشكوك بأن من يقتل أعضاء وكوادر الحزب قد يكونوا من داخل تلك العملية السياسية، من قبل جهات لاتؤمن بالحرية ولا بالديمقراطية ولا بالتحرر. وفي هذا الوضع الملتبس ينبغي على كوادر الحزب وأعضائه الدفاع عن عملية سياسية تطفأ شمس المشروع الوطني وتأسس لآخر بملامح طائفية وقومية شوفينية.
كان كامل شياع، ومازال كثيرون مثله، يحفرون في الصخر دون أن يكون لديهم مايحفرون به سوى إرادة الخلق الواعد في وطن يترنح تحت أقذر اشكال العنف والفوضى المدمرة والفساد الذي أصبح هو القاعدة بينما اُجبرت مفاهيم العدالة والمساواة والحرية، حرية الوطن والمواطن والثقافة والأبداع على التنحي جانباً.
والسؤال الذي نطرحه على أنفسنا الآن بعد أن فقدنا أحد أكثر مثقفي العراق رصانة وجرأة، هو أن كان كامل شياع ذهب، كغيره من أعضاء وكوادر الحزب الشيوعي العراقي الذين سبقوه، ضحية سوء تقدير قيادات الحزب الشيوعي للمرحلة ومتطلباتها وآليات التحرك فيها كما كانت تفعل دائماً وأبداً.
أن قيادة الحزب الشيوعي العراقي دأبت منذ الستينات على حشر أعضاء الحزب وكوادره وجماهيره في معارك شرسة ثم تركهم طعاماً سهلاً لمن يريد تصفيتهم وملاحقتهم وسجنهم وتعذيبهم وإنتزاع الأعترافات منهم، ولم تكن تجهزهم ولو "بالأسلحة" التي تسمح لهم على الأقل بالدفاع عن أنفسهم. هكذا كان وضع قواعد الحزب في نهاية عقد السبعينات وهكذا كان أيضاً في السنوات الثلاث الأخيرة من المرحلة القاسمية وهكذا هو الآن.
لانطلب من قوى اليسار والتحرر والديمقراطية في العراق ترك الساحة، بل القيام بإعادة تقييم شاملة ومفصلّة للوضع الحالي لترى ما إذا كانت هذه العملية السياسية التي دخل بعضهم فيها ستوصل شعب العراق حقاً الى برّ الأمان حيث الحرية والتقدم والديمقراطية، أم أنها مجرد بالون قد ينفجر في اية لحظة ليحيل ما تبقى من آمال العراقيين الى أطلال قاحلة وتحيل حياتنا الى وجود مظلم لسنين طويلة.
أملنا جميعاَ أن تُزهر دماء العراقيبن الزكية لتكون حجر الأساس في وطنٍ ننعم فيه جميعاً بالحرية والعدالة والمساواة، وأن لاتسيل إلا في معارك متكافئة نستعد لها بكفاءة وإقتدار كي لانجد أنفسنا يوماً نردد بأسى ما قاله أحد شعراء جنوب أفريقيا إبان مرحلة الفصل العنصري:
والفراغ الذي تركه كامل شياع في عراق مابعد نيسان 2003 قد يكون أكبر من أن نستطيع إستيعابه الآن، إذ ليس بمقدور الألم ولاالمراثي ولا حتى أكبر جرعات الأمل الأصطناعي، الذي تحرص القيادات السياسية في عراقنا الجديد على حقننا به كل ما ضاقت بها وبنا السبل، أن تردم ولو جزءاً صغيراً منه.
دخل كامل شياع في غيابه الخاص تماماً كما كان متمكناًَ في حياته على أن يكون له حضوره الخاص، مع فارق صغير هو أنه غيابه كان رغماً عنه وبقوة المسدس وكاتم الصوت.
وربما كان يعي حين عاد الى العراق الحزين قبل خمسة أعوام مسلّماً نفسه لحكم القدر بقناعة ورضى (1) أن الطريق الذي أختاره ليس بالسهل وأن أقل مايقال عنه أنه كان وما يزال يمرّ في منطقة رمادية لم يرتدْها أحد من قبل ولم يختبر عراقيٌّ من أبناء زمننا وعورتها وغموضها. فالعراق الحديث وعلى الرغم من وحشية تاريخه السياسي لم يشهد حتى في أشد مراحله قتامة مشهداً كهذا، يسيل دماً ودموعاً وحِمماَ على ركام الخارطة السياسية مخلفاً ورائه هيكلاً صدئاً لشئ كان أسمه وطن.
لذلك سار كامل محتضناً زاده وزوّّاده، الذي كان على الأغلب عدداً كبيراً من الكتب المرتبة بعناية في رفوف ذاكرته والملفوفة بحرير الحُب الخالص لوطنه وشعبه، في طريق لا يعرف هو ولاغيره اين يؤدي وأين ينتهي. جلّ ما كان يعرف أنه أصبح بإرادته رائداً لمجاهل قاحلة في بلد تكاد تنحسر فيه روح التضامن والمواطنة (2) وأصبح ملعباً لحالة سياسية موغلة في الشذوذ يعلن أكثر لاعبيها عن نوايا سليمة وسلميةً فيما هم يمارسون في الخفاء كل أشكال القرصنة والعنف ولا يترددون للحظة واحدة في تصفية من يختلف معهم في التفاصيل الصغيرة فكيف بمن يختلف معهم فيما يدعونه بالثوابت؟
أدى ذلك، كما نعرف جميعاً، الى حدوث أستقطابات سريعة أجبرت أصحاب المشروع التنويري، وكامل شياع في مقدمتهم، على أختيار الخندق الذي سيقفون فيه لمواجهة الموت أو الهزيمة.
المعركة كبيرة أذن، الداخل فيها مفقود والخارج منها مولود، وهي تزداد شراسة يوماً بعد يوم. ومع ذلك آثر كامل شياع أن لا يحمل مسدساً أو رشاشاً نصف أخمص يخفيه تحت جاكيته أو تحت مقعد سيارته. فهو لم يكن يجيد أستعمال السلاح ولم يكن يرى ان حلول مشكلات الوطن تخرج من فوهة البندقية أو المفخخة أو الحزام الناسف. وبقيّ كما كان دائماَ يفضلّ استعمال الكلمة على القنبلة اليدوية والحوار على كاتم الصوت.
ولابدّ أن نؤكد هنا أن كامل شياع يختلف عن جميع أولئك الذين يموتون يومياً في مدن العراق المقهورة تحت حوافر الغزاة وحقد الوحوش الأتية من آفاق الأرض ومن المناطق المظلمة في مدننا وقرانا واللاوعي الجمعي على حدّ سواء. فهو أختار موته على خلاف العراقيين ممن ترمى جثثهم المجهولة الهوية كل صباح في الشوارع ومجاري الأنهار من الذين يموتون بالصدفة أو يحيون بها. جميعهم بلا أدنى شكّ شهداء هذا الوطن، مع أختلاف بسيط: القدرة على إتخاذ قرار الموت والحياة.
أستمر كامل شياع في السير نحو مشروع كان يعرف جيداً أنه يعيش حالة من التراجع الدائم. فالعراق الجديد الذي غادر من أجله منفاه الأوربي لم يرَ منه هو ولاغيره من العراقيين حتى إرهاصاته البسيطة التي تدلّ على إنبثاق بداياتٍ ما تؤكد خروج براعمه الأولى الى الحياة. فبدلاً عن نظامٍ ديمقراطي حقيقي، أقسموا أغلظ الأيمان بانهم سيبنوه ليكون منارة للأشعاع في المنطقة، حصلنا على نظام أنتخابي أعرج يحمل في ثناياه أسوأ سمات الطائفية والقومية الشوفينية ويسمح لها بالنمو والتكاثر السرطاني على حساب المشروع الوطني الديمقراطي. وبدلاً عن سيادة دولة القانون سيطرت على بلدنا مجموعات من الميليشيات والأحزاب الطائفية والقومية والدينية والمجموعات المسلحة التي نشأت وقويت عظامها في ظلّ حالة سياسية مريضة.
كان كامل يرى كل ذلك ولعله كان يحسب حساب كل شئ إلا التراجع. فما تراجع وبقي متمسكاً بأمل تتقلص مساحته كل يوم. وهنا بالذات يكمن مأزق المثقفين اليساريين في عراقهم الجديد، والمنتمين منهم للحزب الشيوعي العراقي على وجه التحديد.
فقد دخلوا في عملية سياسية معقدةٍ وغريبة وكانوا من روادها الأوائل. تهيئوا لها منذ سنين بالمؤتمرات والكونفرسات، وبالمشاركة الفاعلة مع غيرهم من أحزاب المعارضة في تحديد ملامحها وآفاقها آنذاك ويبدو أنهم حصلوا أيضاً على ملامحها العامة منذ زمن ليس بالقصير. وقد يكون من أفضل الأدلة على أن الحزب الشيوعي العراقي كان على علم ببعض خطوط المشروع الأمريكي أنه قام في تسعينات القرن الماضي بفصل تنظيم منطقة كردستان عن جسد الحزب ليكون حزباً قائماً بحد ذاته. الأمر الذي قد يشير الى أن قيادة الحزب كانت تعرف سمات المشروع الذي تمّ إعداده لمرحلة مابعد سقوط الديكتاتورية. ويحمل توقيت عملية فصل تنظيم كردستان عن الحزب في ذلك الوقت بالذات وتأسيس حزب شيوعي كردي الكثير من علامات الإستفهام. ولا نريد التجني على الحزب الشيوعي العراقي ونتهمه بأنه كان أول من شرعن عملية تقسيم الوطن ومهدّ لأنفصال المنطقة الكردية عنه ولكن التفكير والتحليل الموضوعيان لا يتركان بُداً من طرح السؤال: لماذا مزّق الحزب الشيوعي العراقي نفسه على أسسٍ قومية في تلك الفترة بالذات؟ ألم يكن حزب فهد وسلام عادل دائماً حزباً للعراقيين جميعاً بغض النظر عن الدين والعنصر والقومية والطائفة والجنس؟
هكذا أذن دخل الحزب الشيوعي الى العملية السياسية من أوسع أبوابها وأصبح أمينه العام عضواً في مجلس الحكم الذي أسسه ﭙول بريمر. وأصبح شريكاً في العملية السياسية التي تدور رحاها في عراق اليوم ممنياً نفسه أن مرحلة جديدة حقاً ستبدأ في عراق عانى الأمرّين طوال عقود عديدة، وأن دوراً ما ينتظره في تلك المرحلة.
ولكن يبدو أن الآفاق الواسعة التي كان الحزب يتحرك فيها بدأت بالتقلص شيئاً فشيئاً. فالأحزاب الدينية باتت تسيطر الآن بالكامل تقريباً على الساحة السياسية وتحرص بشكل مستمر على أن يكون لها الكلمة العليا واليد الأعلى في اللعبة السياسية سواء في البرلمان أو الشارع. والدولة التي حصل الحزب الشيوعي العراقي فيها على مكان لا بأس به في البداية أخذت حدودها تنحصر في عملية توافقية محكومة بمعايير طائفية وقومية ومناطقية هي بكل المعايير ليست في صالح الشيوعيين.
ومرة أخرى وجد أعضاء وكوادر الحزب الشيوعي العراقي أنفسهم في وضع يشبه ذلك الذي كانوا فيه إثناء فترة حكم الزعيم عبد الكريم قاسم. إذ كانوا محسوبين على النظام ولكنهم كانا يتلقون الضربات منه. كان عليهم العمل مع نظام أنقلب عليهم وبدأ بملاحقتهم، والدفاع عنه في السرّاء والضرّاء.
ويشبه أيضاً وضعهم إبان تحالفهم مع حزب البعث فيما سميّ بالجبهة الوطنية والقومية التقدمية. كان عليهم الدفاع عن سياسات "حلفائهم" بينما هم يتلقون الضربة تلو الضربة من أولئك الحلفاء. ويعلم جميعنا حجم الخسائر التي حاقت بالحزب نتيجة تلك التجربة.
والآن يتبنى الحزب الشيوعي العراقي وبشكل كامل مساندة العملية السياسية الدائرة في العراق. ويدفع خسائر من دماء كوادره وأعضائه فداءاً لعراقه الجديد، في الوقت الذي تطفو على السطح الكثير من الشكوك بأن من يقتل أعضاء وكوادر الحزب قد يكونوا من داخل تلك العملية السياسية، من قبل جهات لاتؤمن بالحرية ولا بالديمقراطية ولا بالتحرر. وفي هذا الوضع الملتبس ينبغي على كوادر الحزب وأعضائه الدفاع عن عملية سياسية تطفأ شمس المشروع الوطني وتأسس لآخر بملامح طائفية وقومية شوفينية.
كان كامل شياع، ومازال كثيرون مثله، يحفرون في الصخر دون أن يكون لديهم مايحفرون به سوى إرادة الخلق الواعد في وطن يترنح تحت أقذر اشكال العنف والفوضى المدمرة والفساد الذي أصبح هو القاعدة بينما اُجبرت مفاهيم العدالة والمساواة والحرية، حرية الوطن والمواطن والثقافة والأبداع على التنحي جانباً.
والسؤال الذي نطرحه على أنفسنا الآن بعد أن فقدنا أحد أكثر مثقفي العراق رصانة وجرأة، هو أن كان كامل شياع ذهب، كغيره من أعضاء وكوادر الحزب الشيوعي العراقي الذين سبقوه، ضحية سوء تقدير قيادات الحزب الشيوعي للمرحلة ومتطلباتها وآليات التحرك فيها كما كانت تفعل دائماً وأبداً.
أن قيادة الحزب الشيوعي العراقي دأبت منذ الستينات على حشر أعضاء الحزب وكوادره وجماهيره في معارك شرسة ثم تركهم طعاماً سهلاً لمن يريد تصفيتهم وملاحقتهم وسجنهم وتعذيبهم وإنتزاع الأعترافات منهم، ولم تكن تجهزهم ولو "بالأسلحة" التي تسمح لهم على الأقل بالدفاع عن أنفسهم. هكذا كان وضع قواعد الحزب في نهاية عقد السبعينات وهكذا كان أيضاً في السنوات الثلاث الأخيرة من المرحلة القاسمية وهكذا هو الآن.
لانطلب من قوى اليسار والتحرر والديمقراطية في العراق ترك الساحة، بل القيام بإعادة تقييم شاملة ومفصلّة للوضع الحالي لترى ما إذا كانت هذه العملية السياسية التي دخل بعضهم فيها ستوصل شعب العراق حقاً الى برّ الأمان حيث الحرية والتقدم والديمقراطية، أم أنها مجرد بالون قد ينفجر في اية لحظة ليحيل ما تبقى من آمال العراقيين الى أطلال قاحلة وتحيل حياتنا الى وجود مظلم لسنين طويلة.
أملنا جميعاَ أن تُزهر دماء العراقيبن الزكية لتكون حجر الأساس في وطنٍ ننعم فيه جميعاً بالحرية والعدالة والمساواة، وأن لاتسيل إلا في معارك متكافئة نستعد لها بكفاءة وإقتدار كي لانجد أنفسنا يوماً نردد بأسى ما قاله أحد شعراء جنوب أفريقيا إبان مرحلة الفصل العنصري:
ليس لدينا شهداء،
فمن يسقط هنا .. هم مجرد ضحايا باردة.
سعد الشديدي
1 و 2 من مقالات كامل شياع على الروابط التالية:
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=145727
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=51336
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق